كلما هبت جماعة من رواد التنوير في الفكر الإسلامي، يقيضها الله لإحياء رسالته وشرحها للناس، كثرت حولها الشبهات والأقاويل، شأن كل جماعة تأتي لتزعزع العروش وتدك الحصون، تلقي في البركة الراكدة حجر الشك والرفض والتمرد لصالح الإنسان والحق والخير والعدل والحرية، وما أيسر التهمة التي تقذف بها: الإلحاد، الزندقة، اللادينية، المروق، وتصدق العامة بالحكاية: إنها جماعة خطيرة مدسوسة، عميلة، مارقة.
مشكلة العامة أنها لا تفكر بحكم انشغالها بتدبير لقمة العيش ومحدودية مستواها الفكري، وهذا لا يقدح فيها فمنها الفلاح والحرفي والتاجر وهؤلاء يشكلون قوة الأمة العاملة، إنها تأتمر بأمر وعاظها وساستها، حتى هذا الفعل في العربية «ساس» فهو يقرأ طردا وعكسا إنه يعني فن الترويض والإخضاع، وهو في الأصل سياسة الخيل، فالخيل الأصيلة فيها التمرد والجموح والعنفوان، وذاك جمالها لكنها بعد السياسة تصير مطية كفرس رهان وفرس صيد وفرس تجوال، وهكذا تغدو الشعوب في المجتمعات الإقطاعية تابعة لحكامها ووعاظها وأغنيائها.
ظهرت فرقة كالمعتزلة مثلا في الإسلام، وفي العهد الأموي ابتداء وهي فرقة تعمل العقل، وتؤمن بالحرية، وتهدف إلى المساواة، فالعقل أعدل قسمة بين الناس والحرية، هي هوية الكائن البشري وسيرورته والمساواة، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وهذه هي القيم التي نافح عنها النبي محمد، ودعوته الإسلامية، دين لخلاص الفرد والمجتمع، حيث الأفضلية للعمل الصالح لا للأحساب ولا للأنساب ولا للعصبيات، لكن الإسلام في عهد الخليفة عثمان عرف مأزقا كبيرا هو ما اصطلح على تسميته بالفتنة الكبرى، وهي حالة حرب أهلية قتل فيها المسلم المسلم، وتآمر المسلم على المسلم، وسالت دماء كثيرة، فالفتنة الكبرى هي محاولة الارتداد على مبادئ الإسلام، تلك التي نافح عنها النبي، واستمات في الدفاع عنها خليفتاه أبو بكر وعمر، الذي كان يتوجس خيفة من قريش ومحاولاتها لي عنق الرسالة المحمدية، فكان لا يحبها ولا تحبه، لكن الأوليغارشية الأموية عادت إلى الإمساك بتلابيب الدولة ومصادرة الإسلام لصالحها، إنها تحيي العصبية الجاهلية، حيث المكاثرة بالجاه والمال، وها هو السلطان جاءها عبر شخص الخليفة عثمان – ذي النورين- هذا الرجل الورع العطوف الكريم، الذي استغلت قرابته سماحة نفسه ورقته، فاستحوذت على الدولة وثارت ثائرة المسلمين على هذه السياسة الجديدة التي ما عرفوها في زمن أبي بكر ولا عمر، كان هناك أعراب غلاظ، سماعون لمختلف الأقاويل، وكان هناك طابور خامس يستغل هذه النزعات ومنهم عبد الله بن سبأ – وعلي الوردي وطه حسين ينكران وجوده، وهما مبالغان في ذلك ولا شك – وكانت هناك جماعة متحفظة على سياسة عثمان ولكنها تدعو إلى السلم والطاعة، مع الاستجابة لمطالب الجماهير والتحذير من بعض الغوغائيين وفتنتهم، وانتهى الأمر بقتل عثمان في مشهد مأساوي لشيخ يقتل بعد أن تجاوز الثمانين، والأمر كما يقول العقاد إن مروان بن الحكم هو عنصر السوء في القصة، واستلم علي الخلافة لتستمر المأساة لقد رفضت الأوليغارشية الأموية الطاعة له، ورفعت قميص عثمان الذي كان حصان طروادة للولوج إلى الحكم، والتأبد فيه وحاربته في صفين، وكان قدر الخليفة القتل والشهادة، ومن ذلك التاريخ انتهت الخلافة ملكا عضوضا ونعيما وترفا أسطوريا، كما هو مدون في كتب التاريخ.
يقول المستشرق الفرنسي بول كازانوفا في كتابه «محمد وانتهاء العالم» «كانت نفسية الأمويين في مجموعها مركبة من الطمع في الغنى إلى حد الجشع، ومن حب الفتح من أجل النهب ومن الحرص على السلطان من أجل التمتع بملذات الدنيا». أما في العصر العباسي فحسب الواحد أن يقرا قولا للإمام ابن حزم: «هناك ثلاثة خلفاء فحسب ينحدرون من أمهات حرائر ضمن مجموع الخلفاء العباسيين، أما بالنسبة للخلفاء في الأندلس فليس هناك خليفة واحد أمه حرة». ويكفي الواحد أن يعرف سمات المجتمع الإقطاعي حيث فئة قليلة متنفذة وفئة رازحة في ذل الفقر والخصاصة، إن ابن بطلان ألف رسالة سماها «رسالة في شري الرقيق» ولفت الله الغزالي كتب كتابا عنوانه «هواية المريد في تقليب العبيد» هكذا صار الناس عبيدا، يؤلف لفت الله كتابا ينبه السادة إلى ضرورة اليقظة وإدراك مكائد تجار العبيد، عند مباشرة عملية الشراء، فالإسلام الذي شجع العتق وساوى بين البشر يعود في المجتمع الإقطاعي بعض ممثليه عرابين للعبودية، وما لنا نذهب بعيدا وعمر بن عبد العزيز أوقف الفتوح، لأنها اتسمت بسيماء العسف ونهب أراضي الناس وأموالهم باسم الفتح، إن هذا التحول الخطير جعل الخليفة العادل يوقف الفتوح، فإحقاق العدل بين الرعية أهم من فتوح تكون اغتصابا واعتسافا. كثيرون يعلقون مشاكل العالم العربي والإسلامي على الاستعمار، وهذا خطأ بين فالاستعمار كان نتيجة ولم يكن سببا، إن ضعف المسلمين وعدم مشروعية نظامهم السياسي، ومصادرة الإسلام الثوري الرسالي لصالح الإسلام المؤسساتي، هو الذي أوصلهم إلى الضعف والوهن، حتى حاق بهم ما حاق ومن ويلات الاستعمار. لقد ظهر مثقفون مسلمون تنويريون ثوريون دافعوا عن قيم الإسلام فماذا كانت نهاياتهم؟ فآل البيت انتهوا جميعهم مقتولين، بدءاً بالحسن الذي ورد في رواية تاريخية أن معاوية سممه حتى يخلو الجو لولده يزيد، فيأخذ له البيعة بعد أن أخل بالشرط الذي اشترطه الحسن بترك الخلافة شورى بين المسلمين بعد وفاة معاوية، ووعد زوجة الحسن بالزواج من يزيد إن مات الحسن، ونفذت بنت الأشعث بن قيس الذي لعب والدها دورا مشبوها في معسكر علي بن أبي طالب، ثم الحسين والإمام زيد الذي صلب عاريا، ومحمد النفس الزكية وإبراهيم وغيرهم من آل البيت، الذين رووا قيم الإسلام بدمائهم الزكية.
الفتنة الكبرى هي محاولة الارتداد على مبادئ الإسلام، تلك التي نافح عنها النبي
وهذا غيلان الدمشقي قتل من قبل هشام بن عبد الملك بتهمة الزندقة في مناظرة مع الأوزاعي، وكانت مناظرة ظالمة، حيث نية القتل مبيتة، والسبب التقارب سابقا بين عمر بن عبد العزيز وغيلان، ودعوته إلى بيع أملاك الأسر الأموية لأنها مظالم، وعدم جواز حكمهم، ولا تجب البيعة لهم، ما أحفظ هشاما عليه، فدبر له مكيدة الزندقة، وألصقت به وصدقت العامة الفرية وراح هذا المسكين شهيدا في سجلات التاريخ. وهذا الجعد بن درهم ذبحه الوالي خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الأضحى أمام المسجد، استمالة لعواطف المصلين للدعوة للخليفة ناصر الملة والدين الذي سل سيف الحق المبين على الزنادقة والمرتدين، وما كانت تهمته إلا أنه دخل عتبة مظلمة لا مفكر فيها أو مستحيل التفكير فيها، تلك مسألة حرية الإنسان إزاء السلطة القائمة وعدم كونها قدرا مقدرا. وأخير فالإمام العظيم أبو حنيفة النعمان نصير آل البيت، الذي بعث بنصيب من المال للإمام زيد لما خرج على الأمويين، وكان يسمي الخليفة هشام «اللص المتغلب» هذا الفقيه المدرك لروح الإسلام، والرافض أن يكون واعظ سلطان، وقد استقل ماليا فلم يقبل هدايا الخلفاء، ولا راتبهم، فقد كان يمارس التجارة تكريسا لمبدأ الاستقلالية، حتى لا يكون مرتبطا براتب شهري يدفع له من بيت المال مقابل الولاء، فقد كان يقول رحمه الله: «لا تقبلوا شهادة من ليس في بيته طحين» فالجوع كما يقول الإمام علي: «ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر». هذا الإمام مات سجينا فقد كان معترضا على الخلفاء – الملوك- ويرى عدم شرعية بيعتهم، لأنهم متغلبون بالعسف والقوة والمكر لا غير. لقد دخلت مرة إلى مسجد الإمام الحسين في خان الخليلي ووقفت أمام الضريح – على فرض أنه مدفون هناك بالرأس أو بدون رأس – فما شعرت إلا والدموع تنهمر من عينيّ، لقد استحضرت جهاد الحسين وثورته، هذا السبط المحمدي الذي خرج على الأمويين ليسجل – ليس على يزيد وحده – بل على الأمويين جميعا وبني العباس وسائر الحكام عدم مشروعية حكمهم، إن ذلك الخروج الحسيني هو شهادة سرمدية على تحريف الإسلام ومصادرته، فلم يكن خروجه انتحارا بل شهادة في أذن الزمان وفي ضمير التاريخ، وكان الخطب يحتاج إلى مثل هذه الشهادة لتقول للأجيال إن الإسلام قد صودر، إنها قيم الإسلام الرسالية العظيمة، التي هي قيم الإنسانية تستحق أن يفتديها سبط من آل محمد بدمه فتكون في الخافقين ـ المشرق والمغرب – بلون الشفق لتذكر الناس بالشهادة والرسالة والعترة المحمدية. ويا للعجب كان أمام الضريح نساء وشباب ومرضى وشيوخ وعجائز من ترجو عريسا ومن يرجو شفاء ومن يرجو نجاحا، كلهم يتوجه بالدعاء متوجها إلى الحسين أو مستعملا إياه واسطة! الحسين الذي علم الناس معنى الثورة استلهاما من رسالة جده، يغدو في إسلام المؤسسة مقاما يبخر ويتوجه إليه بالدعاء وترمى عليه النقود. ويستمر الدين شهيدا في سجلات التاريخ كما يقول علي شريعتي.
كاتب جزائري
هي السنن لا تتبدل ولا تتحول