شهدت الفترة الأخيرة تطورات متسارعة في الأوضاع الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، ابتداءً من الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التونسية، التي أدت لصعود مرشحين وصفا بأنهما «من خارج المؤسسة السياسية»، وصولاً للتحركات الاحتجاجية الأخيرة في مصر، وبروز أشكال غير مسبوقة من الخطاب السياسي، تجاوزت ما عرفناه في الموجة الأولى من «الربيع العربي».
قد لا يبدو المشهد اليوم ربيعياً للغاية، ولكن المثير للانتباه هو الظهور المتزامن لنزعات تشكيكية بالديمقراطية التمثيلية، سواء في خطاب المرشح الرئاسي التونسي الأوفر حظاً قيس سعيد، أو المقاول المصري المنشق محمد علي. ما يطرح سؤالاً مهما: هل جرّبت الدول العربية الديمقراطية التمثيلية لفترة كافية، كي يبدأ الناس بالتململ منها، واكتشاف ثغراتها، وعدم فعاليتها في تحقيق التغيير المنشود؟
يمكن نقد هذا السؤال بأكثر من طريقة، فالعالم العربي ليس جزيرة معزولة، بل على العكس، كان على الدوام ميداناً لتجارب سياسية واجتماعية جديدة على مستوى عالمي، ربما بسبب موقعه الهش وغير المستقر في المنظومة العالمية، من أمثلة هذه التجارب نزوح عدد من المتأثرين بآراء المفكر الفرنسي سان سيمون إلى مصر في القرن التاسع عشر، ليساهموا في عملية التحديث فيها، مروراً بتجربة التحرر الوطني وعدم الانحياز، والتسيير الذاتي العمالي في الجزائر عقب انتصار الثورة، وصولاً لفكرة «احتلال» الميادين إبان الثورات العربية، وانبهار عدد من اليساريين الغربيين بالإدارة الذاتية في «روج آفا» شمال سوريا، إلخ. وبالتالي ليس غريباً أن تجد أفكار تجاوز الديمقراطية التمثيلية أرضاً خصبة للتجريب في الدول العربية، بدون أن تمرّ بالضرورة بالمراحل المفترضة لتحقيق هذا التجاوز. فضلاً عن أن سؤال فعالية الديمقراطية التمثيلية، وتجاور سلطة «الشارع» مع سلطة الدولة، كان مطروحاً دوماً منذ الموجة الأولى للربيع العربي. لدرجة دفعت مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، وهما من أهم من نظَّروا لتلك الفترة، لاعتبار أن «العرب هم رواد الديمقراطية الجدد». ولكن هل نشهد بالفعل نشوء تجارب سياسية واجتماعية وثقافية جديدة في العالم العربي؟
«لا احتمالية التواصل»
يمكن تناول المسألة من جانب تواصلي، بدون إغفال العوامل الاقتصادية والمادية الصلبة. عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه في تونس، قدم إشارة واضحة، عن طريق جسده ذاته، ترفض الذل الذي عايشته شرائح اجتماعية واسعة، خاصة في قضايا العمل والحياة، والرغبة في تقرير المصير الفردي والاجتماعي في مواجهة سلطات متكلسة وفاشلة. قبلها لعب جسد خالد سعيد المنتهك والمعذب دوراً مشابهاً في مصر. كان لا بد من ترجمة هذا الإشارات، التي عجزت عن إيجاد تعبيرات لغوية وثقافية، إلى لغة وترميزات صالحة للتداول العام، قادرة على تبسيط التعقيد اللامتناهي للظروف الاجتماعية، واختيار ما هو صالح لخطاب سياسي واضح، تتفق الأغلبية على معانيه. هنا قام الجيل الأول من ناشطي الربيع العربي، مثل وائل غنيم، بإعادة إنتاج لغة عاطفية – وطنية، لم تبتعد كثيراً عما أنتجته الخطابات الأيديولوجية التقليدية، اليسارية والإسلامية والقومية. وعلى الرغم من أهمية هذه اللغة في إعطاء دفعة حماسية لحراك الشارع، إلا أنها لم تستطع إنتاج ترميزات متفق عليها لمعنى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فأصبح من الممكن لكل الأطراف، بمن فيها العسكر والإسلاميون والجهاديون و«الفلول»، رفع الشعارات واستخدام المفردات ذاتها. ضاعت ممكنات التحرر والانعتاق ضمن ما يمكن تسميته، حسب مصطلحات عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان، «لا احتمالية التواصل»، أي ضياع المعنى بين احتمالات عديدة، ما لم توجد وسائل تواصلية تختار معنىً على حساب غيره من المعاني. اليوم يبدو وائل غنيم، مثل عدد كبير ممن شاركوا في الربيع العربي، في وضع نفسي لا يحسد عليه، ينتقل، في تسجيل واحد، من الرقص على الموسيقى الصاخبة إلى ترتيل القرآن. في محاولة شديدة اليأس، على ما يبدو، للتعبير عمّا يفكر ويشعر به. إنه المصير الأكثر مأساوية لخطاب الربيع العربي.
قد يكون الأجدى ألا نبحث عن مرجعيات هذا الطرح في الدعوات الاجتماعية الجديدة، فيوجد تقليد عربي «أصيل» لرفض الديمقراطية التمثيلية والحديث عن عبثيتها، اشترك به معظم الانقلابات العسكرية، ومنها التجربة الناصرية.
بالمقابل تبدو العربية الكلاسيكية التي يتحدث بها قيس سعيد، وعامية محمد علي «السوقية»، أكثر ثقة وتأثيراً، وقادرة أكثر على التبسيط: الشعب، الذي تعب من الخضوع للطغاة وألاعيب السياسيين الفاسدين، لا يودّ المزيد من الدهاليز الدستورية والمؤسساتية، التي تفترضها الديمقراطية التمثيلية. ويريد تحقيق إرادته. يستشهد سعيد بالربيع العربي وحركة السترات الصفراء، لإثبات عبثية الممارسة السياسية الاعتيادية، والثنائيات التقليدية، مثل اليمين واليسار، العلمانية والإسلامية. أما محمد علي فيرى الحراك المصري ملكاً لـ«الشعب، الغلابة، القاعدة العريضة» وليس للحركات السياسية والناشطين. المطلب الذي يشترك به الاثنان، بدون إمكانية لافتراض أي تنسيق بينهما، يشبه نوعاً من الديمقراطية المباشرة أو القاعدية. من جديد لا معاني واضحة لتعبير «إرادة الشعب»، ولكن هنالك اختيارا ظاهرا للاحتمالات الممكنة: لا للصيغ السياسية والسلطوية المألوفة، لا عسكر ولا إسلاميين ولا ناشطي «التيار المدني». كلها أوراق أحرقها الربيع العربي وما بعده.
شعبوية أم مجالسية؟
يُتهم سعيد وعلي بالشعبوية عادةً، ومؤخراً يُقال، بين الهزل والجد، أنهما يريدان تجاوز الديمقراطية التمثيلية لمصلحة نوع من سلطة المجالس الشعبية غير المركزية. كلا النعتين لا يبدوان مناسبين لفهم طرحهما، على ما بينهما من اختلاف. بالتأكيد يستخدمان أساليب شعبوية في الخطاب، وخاصة تركيزهما على مفهوم «الشعب» المتجاوز للمؤسسة، ويقدمان مشاريعهما بوصفها البديل الحقيقي، إلا أنهما لا يبدوان مهتمين بالعمل ضمن الإطار البرلماني والدستوري لتحقيق هيمنة شعبية جديدة، وهذا لا يقتصر فقط على «ثورية» علي، بل يبدو واضحاً حتى في حالة سعيد، الذي، رغم ترشحه للرئاسة ضمن الأطر الدستورية المعمول بها، وكونه فقيهاً دستورياً، لا يخفي رغبته في تجاوز المؤسسات التقليدية للجمهورية التونسية. لا نجد مثيلاً لهذا في أغلب الظواهر الشعبوية في العالم، من ترامب في أمريكا، مروراً بحركة النجوم الخمسة في إيطاليا، وصولاً إلى الجبهة الوطنية في فرنسا وحزب «البديل» في ألمانيا، كلها حركات سياسية تعرّف نفسها ضمن التقليد الدستوي المستقر، ولا طرح واضح لها لتجاوزه.
أما «المجالسية» فلا تبدو قريبة على الإطلاق من أفكار سعيد وعلي، فهما لا يتحدثان عن مجالس على أساس وحدات إنتاجية أو فئوية (مثل مجالس العمال والفلاحين والجنود والبحارة التي عرفتها الثورة الروسية)، أو مجالس المدن والأحياء، بوصفها مجالاً سياساً – حيوياً مستقلاً للتسيير الذاتي للحياة، حسب بعض فلسفات «اليسار الجديد»، بل يعتمدان على انتداب ممثلي التقسيمات الإدارية البيروقراطية التقليدية، المحافظات والمعتمديات، بديلاً عن الانتخابات البرلمانية، ربما الأدق وصفهما بـ«المحلياتية» وليس المجالسية.
قد يكون الأجدى ألا نبحث عن مرجعيات هذا الطرح في الدعوات الاجتماعية الجديدة، فيوجد تقليد عربي «أصيل» لرفض الديمقراطية التمثيلية والحديث عن عبثيتها، اشترك به معظم الانقلابات العسكرية، ومنها التجربة الناصرية. أما ليبيا فلديها تجربة أكثر طرافة مع «مجالسية» القذافي. تبدو «محلياتية» الرجلين أنسب لإعادة بناء الشبكات الزبائنية العربية، المعتمدة على وساطة الأعيان المحليين، والتي طالما كانت قاعدة للدولة الديكتاتورية. ولكنها فقدت إعجابها مؤخراً بالإمكانات الكارزمية لأي زعيم محتمل.
الدولة مجدداً
يبدو النص الذي كتبه أنطونيو نيغري حول حركة السترات الصفراء عام 2018 أقل تفاؤلاً وانطلاقاً من النص الذي ساهم بكتابته عام 2011 عن الربيع العربي. فبعد أن رأى أن «الجمهور»، في الحالة العربية، قادر على تنظيم نفسه ذاتياً، بدون حاجة إلى «منظمة» أو قادة، بات يرى أن متظاهري السترات الصفراء بحاجة لتنظيم كي لا يتحولوا إلى حراك شعبوي شبيه بحركة النجوم الخمسة الإيطالية. ويشبّه ما يحدث بانتفاضات المساجين اليائسة أكثر من ثورة العمال المبتهجين، الذين يحطمون آلات عملهم (كما كان يحدث أحياناً في احتجاجات رفض العمل الإيطالية). لا يعني نيغري بـ«المنظمة» الأحزاب السياسية التقليدية، أو الاستيلاء على السلطة، بل مواجهة سلطة الدولة بسلطة الجمهور المنظم، الذي من الممكن أن يتحول إلى «طبقة» قادرة على التغيير. بما يتجاوز الديمقراطية التمثيلية. لا شيء من هذا يبدو مشابهاً لطرح سعيد وعلي، فكلاهما يفكر بإعادة هيكلة الدولة، وليس تجاوزها أو مواجهة سلطتها بسلطة بديلة. والنتيجة ربما تكون دولة غير ديمقراطية على قاعدة مناطقية، تعيد تعزيز البنى الأبوية، بدون وعد حقيقي بهامش حريات أوسع.
نيغري أدرك من البداية إمكانيات الفشل في الحالة العربية، سواء عن طريق القمع الدموي، أو ضغط التراتبيات العائلية والدينية، إلا أنه رأى أن ذلك لن يعني نهاية تطلعات التغيير التي أطلقتها حيوية البشر الثائرين، بهذا المعنى فما يطرحه سعيد وعلي قد يكون تعبيراً عن ديناميكيات اجتماعية لا فائدة كبيرة من رفضها أو إنكارها، والأجدى البحث في ما يمكن أن تتيحه من فرص لتجاوز حالة الاستعصاء العربي.
٭ كاتب من سوريا