عندما كنت أشتغل بالكلام والخبر (1997) لإعادة التفكير في تراثنا الأدبي والثقافي، استبدلت مفهوم «التراث» بـ«النص» بهدف التعامل معه بكيفية مختلفة عما كان سائدا. لم يكن هذا الاستبدال ترفا لغويا اتصل بالحقبة البنيوية، وما بعدها، مع هيمنة مصطلحي الخطاب والنص. إننا كما نختار المصطلحات، أيا كان نوعها، ونفضل بعضها على غيرها، تكون لنا مقاصد محددة نرمي إلى الوصول إليها، وإلا كان توظيفنا لها بلا معنى.
كان وراء انتقائي لمفهوم «النص» بديلا عن «التراث» في ذاك الكتاب تحقيق غايات متعددة. منها أولا نزع الإيحاءات المختلفة التي كانت تمنح للتراث العربي منذ عصر النهضة إلى نهاية التسعينيات. وثانيا تجنب الخوض فيه على منوال المواقف التي اتخذت منه. وثالثا اتباع مسلك مختلف في التعامل معه. كان التراث لدى البعض رديف التخلف، ونقيضه الفكر الغربي نتاج التقدم، كما اعتبره البعض الآخر دليلا على الأصالة والهوية. وضمن هذين التصورين المتقاطبين نجد رؤيات فرعية تتصل بمواقف مختلفة، فالذين ينطلقون من الأصالة يرون فيه ما يصلح للاستعمال، ومنه ما يمكن رفضه، وإذا كان بعض الحداثيين ينادي بالقطيعة معه نهائيا، نجد آخرين منهم يرون فيه جوانب مضيئة يمكن التعامل معها مع إهمال الجوانب المظلمة فيه.
ومع تطور الدولة القطرية، سارت كل دولة تنسب إليها ما أنتجه أعلام من هذا التراث، مدعية أن عطاءاتهم من حقهم وحدهم، ما داموا قد نشأوا أو أقاموا في تلك الجغرافيا، فصارت تعتبره «تراثــ»ـها الخاص بها، وتدرسه لأبنائها على أنه ملكية خاصة، فهيمن، من كل ذلك، الاجتزاء والابتسار والتوظيف السياسوي.
مع الألفية الجديدة، وقد تطورت الأمور بشكل مختلف، عما كان عليه الوضع قبل ذلك، ببروز النزعات العرقية والطائفية واللغوية، تحت تأثير ما طرأ مع الإرهاب والربيع العربي، بدأ يخفت مفهوم التراث العربي، وصارت كلمة «عربي» مثيرة لمواقف متباينة. وباتت كل طائفة تدافع عن «تراثها» الخاص بها، فإذا هو سني تارة، وشيعي طورا. كما أصبح البحث عن أصول التراث غير العربي المتصل بلغات وأعراق أخرى موضع الانشغال والبحث. وهكذا أمسى استحضار «شخصيات» سياسية وثقافية من التاريخ ما قبل الإسلامي، وتقديمها على أنها ممثلة لتراث «آخر» لم يتم الاهتمام به تحت ذرائع لا حصر لها. فصار القديس أوغستين وأبوليوس وسواهما أمازيغيين، وهكذا دواليك.
مع الألفية الجديدة، ومع الثورة الرقمية، استبدلنا مفهوم «النص» بـ«النص المترابط» ليس جريا وراء التقليد وركوب الموجة. إن النص الرقمي هو رهان المستقبل، وتبعا لذلك نرى أننا أمام ضرورة استبدال مفهوم «النص العربي» بمصطلح جديد يتصل بعصر «المعلومات».
كنت أختلف، وسأظل، مع كل هذه التصورات على اختلاف طبائعها ومقاصدها من التاريخ والتراث، لأني أراها لا تاريخية ولا واقعية ولا علمية. فهي تسقط ما يجري هنا والآن على تاريخ مختلف، وعلى إنتاجات تشكلت في أزمنة وجغرافيا، وسياقات لا علاقة لها مطلقا بما يجري الآن. لذلك اعتبرت «التراث» العربي بمثابة «نص» شامل له شروطه التاريخية التي تشكّل فيها، وبنياته التي يتكون منها، والعلاقات التي تربط بينها. وعلينا البحث فيه بطريقة لا تميز بين الإيجابي والسلبي، ولا التقدمي أو الرجعي، أو بين الواقعي والخيالي، وما شابه هذا من الثنائيات التي نوظف. علينا أولا العمل على إتاحته للجميع بتدوينه وتحقيقه وطبعه. وثانيا البحث في «نصيته» بهدف معرفته معرفة علمية. وكان هذا هو طموحي وأنا أدرس التوحيدي، كما أدرس الراوي الشعبي. لكن توظيف التراث لخدمات أيديولوجية وسياسية ظل هو السائد إلى اليوم. لم يحقق كل التراث العربي، ولا نتعرف إلى الآن على جوانب كثيرة تتوارى خلف نصوص ظلت متجاهَلة أو مجهولة في المخطوطات التي تحتويها مكتبات خاصة، أو عالمية. وحين أصف هذا التراث بـ«العربي» وقد صارت هذه اللفظة محملة برؤيات أيديولوجيات ضيقة، لا أحيل بذلك إلى قومية أو إلى عرق. إنه كل ما أنتج بالعربية، أيا كانت أصول منتجيه العرقية. فهو ملك للجميع، بل هو تراث إنساني شأنه في ذلك شأن تراث كل الأمم والشعوب، الذي أنتج قبل العصر الحديث.
إن استبدال مصطلح شائع بآخر، تعبير عن موقف فكري، وتصريح بتصور منهجي، فالموقف الفكري يستدعي فتح نوافذ جديدة للرؤية، والتصور المنهجي يدفع في اتجاه اتباع مسالك جديدة في البحث والاستكشاف. كان هذا هو مرادنا، ونحن نعوض التراث بالنص، في دراستنا للتراث السردي العربي القديم منذ أواسط الثمانينيات.
مع الألفية الجديدة، ومع الثورة الرقمية، استبدلنا مفهوم «النص» بـ«النص المترابط» ليس جريا وراء التقليد وركوب الموجة. إن النص الرقمي هو رهان المستقبل، وتبعا لذلك نرى أننا أمام ضرورة استبدال مفهوم «النص العربي» بمصطلح جديد يتصل بعصر «المعلومات». إن كل ما كنا ندرجه تحت مصطلح التراث أو النص، يمكن التعامل معه، الآن، لأغراض جديدة بـما نسميه: «المدونة الكبرى» التي اخترتها ترجمة لما يعرف بـ (Big Data) ونضيف إليها العربية. إن «المدونة العربية الكبرى» تشمل كل ما أنتج في التاريخ العربي من معلومات، وبيانات، أيا كانت طبيعتها أو علاماتها، أو منتجوها. تفرض علينا هذه «المدونة الكبرى» التعامل معها بما يقتضيه تدبير «المدونات الكبرى» وتحليلها في العلوم الرقمية المعاصرة.. إنه رهان الاستبدال والتطور والمواكبة؟
القديس اوغسطين عرف نفسه بكونه بونيقيا حيث يقول ” لا تزدري هذا البونيقي”
ينبغي التمييز بين عالم الواقع وعالم القيم. حسب الحكمة الغربية السائدة، فان كل بيانات العالم هي غير مؤهلة علميا او موضوعيا لاثبات حكم قيمي او اخلاقي واحد. وهذا ما يعرف ب”المغالطة الطبيعية Naturalistic Fallacy” في فلسفة الاخلاق الغربية. اذن علم البيانات الضخمة Big Data هو يساعد في فهم الواقع وليس تبريره او رفضه.