قبل مقاربة الكيفية التي تعلمن بها التنوير بالعلمانية، كديانة سياسية ضد التقاليد وميتافيزيقيا الدين، والكيفية التي تعقلن بها باستخدام العقل والعقلانية ضد الأساطير والخرافات والأوهام التاريخية ـ آثرنا اجتراح مفهوم جديد، اصطلحنا عليه بـ(تنوير التنوير)، يبدأ من الدين الحاضنة للتنوير، باعتباره أقرب إلى الاستنارة الدينية منه إلى المنظومة الكنسية، الذي أنجزته الحداثة عبر لاهوت العصور الوسطى بنسخته الإصلاحية، التي انطلقت منها علمنة أوروبا، ومن ثم ليتجاوز الأصولية المسيحية وفق مبادئ التنوير الكونية (الأنسية/ المدنية/ الديمقراطية) لمواجهة تيارات التطرف والتكفير والعنف الديني الراديكالي في العالم.
إذن قبل أن نؤسس لمفهوم (تنوير التنوير) لابد من تعريف (التنوير)، فقد سُئِل كانط: ما هو التنوير؟ فأجاب: «هو خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته» أي «الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين». «إيمانويل كانط/ إجابة عن سؤال: ما هو التنوير؟ ترجمه عن الألمانية إسماعيل المصدّق». ولكن هل ما يزال تعريف كانط يمتلك حياة متجَّددة بما يجلعه مكتفيا بذاته وفق قوانين تطور اللحظة التاريخية المعاصرة؟ أم أن مفهوم التنوير تعّرض عبر سياقه التداولي إلى تغيير جذري في الماهية والمعنى والوظيفة؟
لقد كان التنوير نتاج انفصال العلم عن الدين، والفلسفة عن اللاهوت، والعلم الطبيعي عن الفلسفة، بل ارتبط التنوير بالطبيعة العلمانية القائمة أصلا ً على استبدال العقل بالدين، وإحداث القطيعة مع التراث المسيحي. وبذا لا يمكن تعريف التنوير، فقد أكد الفيلسوف اليهودي موسى مندلسون على أن مصطلح التنوير يصعب تعريفه، لأنه عبارة عن «عملية لم تكتمل بعد» في كيفية استخدام العقل. ولكن يمكن تحديد أنوار التنوير، ومنها: العقلانية/ الحرية/ الاستقلالية/ المدنية/ التسامح بوصفه رديفا للتنوير.
انتهى التنوير في أوروبا والغرب، لأنه «استنفد العقل التحررّي من طاقته الروحية والأخلاقية بسرعة ـ كما ذهب إلى ذلك محمد آركون ـ وتحوّل إلى عقل توسعي راغب في السلطة والهيمنة على الآخرين».
ورغم أن العقل يشكل مركز مدار التنوير، فإن هذا المدار ينفك عن اتجاهات متعاكسة من حيث ثنائية الأضداد: الدين والخرافة/ العقل والجهل، كالديانة المنزوعة عنها العقلانية / العقلانية المنزوعة عنها الديانة. لهذا يتعارض في نسق التنوير كل من العقل والعلم مع الدين والخرافة، فـ»الأديان متعدّدة، والعلم واحد». (تزفيتان تودوروف «روح التنوير»). فقد آمن كانط وديكارت بالعقل، في حين كان روسو أقل إيمانا بدور العقل والعلم منهما، أما فولتير فلم يعاد الدين البتة، فقد كان ربوبيا، بل جاهر بعداء صارم لرجال الدين (صالح مصباح «في استشكال التنوير مباحث في التنوير موجودًا ومنشودًا». وإن كان التنوير محاثيا للحداثة، فكيف زحزحت ما بعد الحداثة ـ التنوير؟
لقد انتهى التنوير في أوروبا والغرب، لأنه «استنفد العقل التحررّي من طاقته الروحية والأخلاقية بسرعة ـ كما ذهب إلى ذلك محمد آركون ـ وتحوّل إلى عقل توسعي راغب في السلطة والهيمنة على الآخرين». (محمد أركون «تجربة الاستعمار»).
وإن كان ليس ثمة حاجة إلى تحديد بدء التنوير المبكر، سواء كان في القرن السابع عشر أو القرن الثامن عشر، فإن ثمة ضرورة لتحديد بدء تفكك التنوير ما بعد الحداثة «كفلسفة تنطوى على نزعة تناهض فلسفة (التنوير) التي أعطت الدور المركزي للعقل وإمكان تحقيق المجتمع العقلاني المنشود». (خلدون الشمعة «أفول عصر التنوير وصعود ما بعد الحداثة في الأدب العربي»). لقد صنع التنوير فكرة فصل الدين عن الدولة، وأدّى إنزياح الدين في مجريات السياسة إلى ظهور ديانة سياسية جديدة، هي «عبادة الدولة»، ومن ثم تقديس «عبارة الفرد» في الأنظمة الشمولية، على النقيض تماما ًمن الأنظمة الليبرالية التي أطاحت التقديس السياسي والكاريزمي، لأن التقديس شأن فردي خاص بالإنسان وحده. وبذا فإن سؤال (تنوير التنوير)، يرتبط بقوانين تطور حركة ما بعد الحداثة وآلياتها الجديدة في كسر (التطور المحجوز) في السياق التاريخي للتنوير، ما بعد التحرر من اللاهوت الميتافيزيقي، والانفتاح على البنى المعرفية المتحوّلة ما بعد الإنسان والإنسانية بأفق كوني.
إذن نستطيع الاستدلال على ما يدعم أطروحتنا لمفهوم (تنوير التنوير) من خلال فكرة المفكر البروتستانتي بيير بايل (-1647 1706) حيث «يغلب، ولأول مرّة في تاريخ الفكر الأوروبي النور الطبيعي، فوق الطبيعي، وهذا العمل يعتبر خطوة جديدة في اتجاه التحررّ من اللاهوت الديني، والتوصل إلى العقلنة الكاملة لاحقا ً» (هاشم صالح «مفهوم التنوير ومدلولاته في الفكر الأوروبي»). وما ندعوه بـ (تنوير «عقلانية» التنوير) هو الربط بين التنوير بدلالته الوظائفية، والعقلانية بدلالتها المعرفية، ومن ثم الجمع بين (نور العقل) و(نور الإيمان) وبذلك يصبح (العقل مركز قلب المؤمن). ومن روح التنوير المبكر، ينبعث «تنوير التنوير» بروح جديدة من رماد الحروب المذهبية والطائفية والعرقية، لتمثيل روح اللحظة التاريخية المعاصرة. وبذا لم تعد ثمة ضرورة للتمسك بروح التنوير (القديمة)، خاصة بعد أن أخفقت الحداثة في تحقيق مشروعها التنويري غير المكتمل. ومن روح التنوير أيضا، الذي توقف عند حدود الإصلاح الديني لمرحلة اللاهوت الميتافيزيقي، تبدأ تمثيلات «تنوير التنوير» لما بعد الحداثة. ومن خلال تلازم (العقلانية والعلمانية والمدنية) يكون التنوير، قد مرّ بنوعين من التحولات: تحرير العقل، وتغيير العالم.
٭ ناقد وكاتب من العراق
ارى تنوير تنوير كنهب
فتنوير الحقيقة عند ربي
اشكر الكاتب على مقاله وان كان ان كل الاسماء الواردة في المقال تحيل الى اسماء غربية كان التنوير العقل انحصر في اوربا عن باقي العالم.اما مسالة ربط الايمانم بالعلم فيكفينا ما جاء في الاية 56 من سورة الروم ” وقال الذي اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث وهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لاتعلمون” الشاهد انه ربط العلم بالايمان “اوتوا العلم والايمان” ووصف الاخرين بغير العلم “كنتم لاتعلمون”.لعدم ايصال ماهم عليه من المعلومات وليس العلم بالايمان.لان الايمان( مطلق الايمان) الذي هو تصديق ما جاء من الخبر في حد ذاته علم شرط ان يكون المخبر صادقا في اخباره
شكرا لكاتب هذه الملاحظة القيمة حول مقالنا ( من التنوير الى تنوير التنوير ) : نعم – المقال يبدأ من حيث انتهى التنوير في أوربا والغرب ليجترح أو يقترح مفهوم ( تنوير التنوير ) الذي يتجاوز مفهوم ( التنوير ) بصيغة الازاحة والابدال ، وبضمنه الكيفية التي تماكن فيها لفظ ومعنى العقل والقلب ، حتى صار القلب مركز عقل المؤمن ، آملا توسيع مفهوم ذلك في سياق آخر أو لاحق .