من الذي سيخبر الشعب المصري؟

في فيلم مدهش بقدر ما هو ممتع، يُستدعى مسؤول دعايةٍ داهيةٌ، محنك وملتو إلى أقصى حد من قبل أحد معاوني الرئيس الأمريكي، لإيجادٍ حلٍ ما أو طريقةٍ لصرف الانتباه عن فضيحةٍ جنسيةٍ متخلقة، توشك أن تنفجر في وجهه قبل الانتخابات الرئاسية بأسبوعين، فيتفتق ذهن صاحبنا مسؤول الدعاية عن اختلاق حربٍ لا وجود لها البتة، اختلاقها سينمائياً لا في الحقيقة، أي حرب «كده وكده» كما قد نعبر نحن المصريين. من أجل ذلك يستعين بمنتجٍ من هوليوود، وعبر تعريجاتٍ وتفاصيل لا مكان لها هنا، ينجحان بالفعل في مسعاهما ويُعاد انتخاب الرئيس. ذاك كان فيلم «ذيل الكلب» وقام بدور مسؤول الدعاية الممثل العبقري روبيرت دي نيرو.
ما يهمني هنا هو سؤالٌ طُرح على ذلك المسؤول الدعائي الداهية من قبيل، ما الذي سيحدث إذا ما اكتشف الشعب الأمريكي أن حرباً لم تقع، أو أن تلك لم تكن إلا كذبة، فلم يكن منه إلا أن أجاب مباشرةً، بدون تردد بابتسامةٍ على وجهه: «ومن الذي سيخبرهم؟».
لم يزل هذا الرد يتردد في أذني، ويلح على ذهني بينما أتابع مراقباً، كيفية تعامل النظام المصري مع مجريات الأحداث، سياسيةً كانت أم في ما يتعلق بجائحة كورونا.
يقيناً لقد أثبتت السنوات التي تلت الانقلاب، أن أجهزة الدولة العميقة، يرفدها بدون شك خبراء ومتخصصون، تمتلك فهماً عميقاً للتكوين النفسي لعامة الشعب المصري وسيكولوجيته الجماعية إذا جاز التعبير، بقدر ما تكن لهم من الاحتقار وتتعامل معهم بتعالٍ حقيقي وعميق؛ ذلك الفهم لا ينبع بالضرورة فقط من تفكيرٍ أو تأملٍ ذهنيٍ عميق أو علم، وهي ملكاتٌ أشك أن أياً ناهيك من حفنةٍ ولو ضئيلة من الضباط يملكها، وإنما بصورةٍ تلقائيةٍ «حشوية» ناجمة عن طول المراس ومعاشرة الناس ومعايشة كل أصنافهم على اختلاف خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية. وفقاً لتلك النظرة أو الرؤية فهم يرون في المصريين قطيعاً كبيراً، صاخباً، جاهلاً أحمق في المجمل، به قلةٌ من المتعلمين والعقلاء الذين يساوون شيئاً (في نظر النظام بالطبع) وإن تلك النظرة تتسق من ثم بانسيابيةٍ تامة مع انحياز النظام الاجتماعي والاقتصادي؛ من هذا المنطلق فهم يؤمنون بحتمية سياقة هذا القطيع، ومنعه من الخروج عن السيطرة بكل الوسائل الممكنة، عنيفةٍ أو غير عنيفة، بل أثبتت ممارسة السلطة، وعلمتهم التجربة التاريخية الطويلة بأنه لابد من استخدام كل الوسائل مجتمعةً طيلة الوقت، فلابد دائماً من العصا المرفوعة فوق رؤوس الناس، وبعض المواطنين المحبوسين يتلقون الضرب والإهانة في خلفية المشهد، في الوقت نفسه، الذي تتدفق فيه الدعاية من كل منافذها عن حكمة الرئيس وقوة الجيش الجبارة، التي ترعب الأعداء، فيحسبون لها كل حساب، والمعدلات غير المسبوقة للنمو والتطور إلخ، وبالطبع هناك التخويف المستمر من الانهيار والفوضى، ولعلك لن تعدم ضابطاً أو مسؤولاً أو أكثر، ناهيك من البورجوازية المصرية بمجملها، ترى وتنَظِر أن ذلك في نهاية المطاف عملٌ أخلاقي من الطراز الأول، فما قيمة آلاف أو عشراتها يُحبَسون فيُقتل منهم قلة، غير من تتم تصفيتهم مقابل الفائدة المجنية من الحفاظ على النظام وتجنب الفوضى؟ إذا كان ذلك هو الثمن فهو في نظرهم ضئيل، والمشكلة الحقيقية في نظري تكمن في أن قطاعاً معتبراً من الجمهور، إما اقتناعاً بما لُقن وسُقي عبر الأجيال، أو عن عدم اكتراث بمصائر الآخرين، يشاركهم هذا الرأي.

مدرسةٌ في التعامل مع الشعب تنطلق لا من احتكار المعلومة والخطاب فحسب، ولكن في إخفاء الحقائق المزعجة أيضاً

ما يستوقفني هنا هو ذلك الأسلوب المدهش، الذي لا يخلو من طرافةٍ (وإن سوداء) الذي ينتهجه النظام المصري: عدم الاعتراف، يبدو أن ثمة قناعةً لديهم بأن شيئاً لم يحدث ما لم يقروا ويعترفوا به، لم يمهروه بـ»ختم النسر» شأنه في ذلك شأن المعاملات الرسمية.
مثال ذلك الأقرب هو التعامل مع وباء كورونا؛ فالقاصي يشهد والداني، نحن وأقرباؤنا ومعارفنا، بأن تلك الموجة ملأت المشافي حتى عدمت الأسرة، وأماكن العزل، وتحصد الأرواح حصداً حتى أصبحت قرىً بل ومحافظاتٌ بأكملها أماكن موبوءة، كما أن الموجة الأولى تسببت في زيادة عدد الوفيات عن المتوسط في ثلاثة أشهر، بما يزيد عن الخمسين ألفاً؛ لكن الدولة لم تعترف بذلك، بل وتباهى السيسي متسائلاً (متبجحاً في حقيقة الأمر) لم العجب من أن يرأف بنا الله بصورةٍ خاصة، ولعله من المفيد أن نذكر أن ناريندرا مودي قال شيئاً شبيهاً، ولننظر الآن إلى أين وصلت الهند. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن سد النهضة، فالناس، أو على الأقل، المهتمون والواعون منهم، قلقون يخشون نقص المياه والتصحر، وفقدان السيطرة على شريان الحياة التاريخي، الذي يدركون جيداً أن مصر، تلك الواحة، لم تكن لتوجد بحضارتها من دونه؛ غير أن النظام يتعامل مع الملف برمته بانعدام شفافية على المستوى الشعبي، يضاف إلى انعدام الكفاءة في التفاوض، واتخاذ القرارات في شأنٍ مصيريٍ كهذا، ولأن الأمر أكبر من أن يُهمل تماماً، أو يتمكنون من إخفائه، فقد لجأ النظام إلى التهديدات الغامضة تارةً وللتجاهل الرسمي تارةً أخرى.
هي مدرسةٌ في التعامل مع الشعب تنطلق لا من احتكار المعلومة والخطاب فحسب، ولكن في إخفاء الحقائق المزعجة أيضاً، انطلاقاً من تلك القناعة التي ذكرت بأنه ما لم يعترف النظام، ما لم يصارح الناس بالمصيبة، فهي لم تحدث، وما كل الوفيات والقمع والقتل والفقر إلا أشياءٌ عادية، فالعادي هو تلك المظلة السابغة الفضفاضة التي يعمل النظام بمنهجيةٍ على مدها، لتشمل كل ما من شأنه أن ينتقص الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية، وعلى رأسها الحق في الحياة فتبتذل كما يبتذل الاعتقال والحبس الاحتياطي والتعذيب والقتل والتصفيات، وسيلجأ النظام إلى إعلامه ليسوق أمثلةً من اليمين واليسار، ملفقاً كاذباً مدلساً أحياناً في حوار طرشانٍ، لا يخدم سوى ترسيخ أن حالنا لا تختلف عن أي مكانٍ آخر في العالم. «ما هي الحقيقة» سؤالٌ ألقاه بيلاطس البنطي منذ قرابة الألفي عام ولم يدرك كم سيخلده التاريخ، فالإجابات المحتملة لا حصر لها، وفي مصر وفر السيسي على الناس مشقة البحث، حين دعا الناس آمراً مزمجراً بأن لا يسمعوا كلام أحدٍ غيره. لكن السؤال الحقيقي الذي طرحته سابقاً وسأظل أعيده: كم عمر الكذب والإخفاء وهل يحتاج الشعب المصري إلى من يخبره؟ أم أنه يعرف الحقيقة من نفسه وسيتمرد على هذه الأوضاع؟
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تيسير خرما:

    بدول العرب منتسبوا أجهزة عسكرية وأمنية وأقرباؤهم وأصدقاؤهم يجاوز نصف السكان وبيئة الأعمال والصناعة والأغلبية الصامتة والأقليات تفضلهم على الفوضى، بالتالي لا يصل موقع مسؤولية أو يبقى فيها إلا من كان منهم أو مدعوماً منهم ويتسلحون عادةً بالعروبة والثقافة العربية الإسلامية السمحة الجامعة مع التمسك بالهوية الوطنية فتصبح معاداتهم بمثابة خيانة عظمى للوطن والأمة، بالتالي لا ينجح الإسلام السياسي بتغيير المعادلة حتى لو حصل على تأييد غربي مؤقت كما حصل لربيع تركي إيراني بأوطان العرب والذي تبخر واندثر سريعاً

إشترك في قائمتنا البريدية