الصراع بين اهل السنّة والشيعة قديم، عمره عمر الإسلام نفسه او يكاد.
إنه في ظاهره صراع مذهبي، لكنه في باطنه صراع سياسي بين اهل السلطة وخصومهم، يستخدم فيه الطرفان، ولا سيما الحاكمين، مقادير متفاوتة من المفاهيم والعصبيات والشعارات المذهبية للنيل من الخصوم.
هكذا كان الامر عندما كان العرب يحكمون انفسهم لمدة لا تزيد كثيراً عن 400 عام. بعدها، ولمدة لا تقل عن الف عام، خضع العرب لحكام اجانب.
لأن هؤلاء كانوا مسلمين ظاهراً وليسوا مؤمنين باطناً، فقد اعتمدوا في الحكم عموماً نهجاً يقوم على ركائز ثلاث: الشريعة وفق مفهوم احد مذاهبِ اهل السنّة كاداة للضبط والربط، والعصبية المذهبية كاداة لقمع المعارضين من غير مذهب الحاكم، وتوظيف المفتين ورجال الدين في خدمة السلاطين.
هذا النهج السلطوي المعتَمد من قبل الحاكمين الاجانب المسلمين ازداد حدّةً وضراوةً مع الحاكمين غير المسلمين، ولا سيما الاوروبيين المستعمرين.
لم يتغيّر الامر كثيراً مع وصول حكّام وطنيين الى سدة السلطة بعد انحسار الاستعمار الاوروبي، ذلك ان قلةً قليلة من الحكام الوطنيين اعتمدت فعلاً لا قولاً القاعدة القائلة إن الديمقراطية هي حكم الأكثرية واحترام رأي الاقلية التي يمكن ان تصبح يوماً ما اكثرية حاكمة.
مع زرعِ الكيان الصهيوني بين ظهرانينا واحتلاله فلسطين من النهر الى البحر، وعجز الفئات الحاكمة عن مواجهته والحؤول دون توسعه الى دول الجوار، نشأت واندلعت مقاومة وطنية وإسلامية في فلسطين، وفي البلدان المجاورة التي احتضنت مجاميع من اللاجئين الفلسطينيين، بل ان إحداها (المقاومة الإسلامية في لبنان) تنامت وتطورت الى حدٍّ تمكنت معه من دحر ‘اسرائيل’ في حرب 2006 وتحولت الى قوة وازنة ذات فعالية اقليمية.
هذا التطور اللافت في ارتفاع منسوب المقاومة لدى جماهير العرب، دفع حلف ‘الناتو’ ، ومن ورائه ‘اسرائيل’ ، الى تأجيج الصراع السنّي- الشيعي التقليدي بقصد تمييع التناقض الاساس بين العرب و’اسرائيل’.
مع اعتماد ايران برنامجها النووي، حاولت ‘اسرائيل’ تطوير الصراع السنّي الشيعي الى صراعٍ بين العرب والفرس على نحوٍ يؤدي الى دفع العرب الخائفين من ايران الى الاستعانة بدول حلف ‘الناتو’. اكثر من ذلك، نجحت ‘اسرائيل’ في تصوير بعض حركات المقاومة بأنها مجرد اذرعة لإيران، لمجرد انها تقبّلت منها دعماً مالياً وسلاحاً.
هذه التطورات مجتمعة ادت الى صعود الصراع المذهبي في معظم عالم العرب وتظليله الصراع السياسي الذي هو، في الاصل، جوهر الصراع بين مختلف الأطراف والقوى المتنافسة على السلطة.
ادى صعود الاخوان المسلمين ووصولهم الى السلطة في مصر، ومحاولتهم وضع اليد على مفاصل مفتاحية في ‘الدولة العميقة’، وفشلهم الذريع في معالجة الازمة المعيشية الإقتصادية – الاجتماعية، الى نشوء ظاهرة شعبية وسياسية متنامية صيحتها الغالبة معارضة حكم ‘الاخوان’ ورفض احكام الإسلام السلفي المذهبي المناهض لغيره من الفرق والمذاهب المتمايزة عنه.
مع صعود المعارضة الشعبية والسياسية لحكم ‘الاخوان’ وتمكّنها يوم 30 يونيو الماضي من إنزال اكثر من 30 مليون معارض على مستوى مصر كلها، تشجعت قيادة القوات المسلحة على مواجهة حكم ‘الاخوان’ لإنهاء محاولة سيطرته على الدولة العميقة، التي يشكّل الجيش دائماً وفي مختلف العهود المتعاقبة محورها المركزي.
كانت الولايات المتحدة ارتاحت لصعود ‘الاخوان’ وسيطرتهم على السلطة بالتفاهم مع قيادة القوات المسلحة، وذلك لسببين: اولهما، ان ‘الاخوان ‘كانوا اكدوا لإدارة اوباما انهم لن يمسّوا امرين شديدي الاهمية الإستراتيجية بالنسبة اليها، النظام الاقتصادي الحرّ المفتوح ومعاهدة السلام (كامب دايفيد) مع ‘اسرائيل’. ثانيهما، العلاقة الجيدة التي تربط واشنطن مع الجيش، قيادة وضباطاً، من خلال برامج التدريب والتسليح والتوجيه منذ عهد انور السادات.
خلافُ قيادةِ القوات المسلحة مع ‘حكم الاخوان’ حول مسألة السيطرة على مفاصل الدولة العميقة اقلق الولايات المتحدة لكونه اكرهها على الاختيار بينهما، غير انها سرعان ما حزمت امرها واختارت الجيش بعدما تأكدت من عدم قدرة ‘الاخوان’ على الصمود، بعد انحياز القوات المسلحة الى الاكثرية الساحقة من المصريين المناهضين لحكم ‘الاخوان’. فوق ذلك، اطمأنت ادارة اوباما الى ان قيادة المعارضة الشعبية تنطوي على بعض القيادات والقوى السياسية الليبرالية الراغبة في التعاون مع واشنطن، كما فعل الاخوان المسلمون.
غير ان إزاحة محمد مرسي من الرئاسة لم تُضعف الاخوان المسلمين ولا قوتهم الشعبية الوازنة في الشارع، فقد احتشد الالوف منهم مع انصارهم في ساحتي ‘رابعة العدوية’ و’النهضة’ بالقاهرة ورفضوا إنهاء الاعتصام قبل إعادة مرسي. اعتصام ‘الاخوان’ مشفوعاً باضطرابات امنية مؤثرة في سيناء وبعض احياء القاهرة شكّل مُشكلاً مقلقاً لسلطات الحكم الجديد الذي اعتبره مهدداً للامن القومي. فوق ذلك، ثمة هاجسان لمشكلة الاعتصام ‘الاخواني’ في الساحات العامة: داخلي وخارجي، ذلك ان عجز سلطات الحكم الجديد عن إنهاء الاعتصام يُضعف هيبته وسلطته، كما ان اقتران انهاء الاعتصام بسفك الدماء يعزز شعبية ‘الاخوان’ ويطيل الأزمة ويعقدها، كذلك فإن إنهاء الاعتصام بالقوة المقرونة بسفك الدماء سيثير العالم الخارجي ويشوّه صورة الحكم الجديد ويضعفه.
الى ذلك، ثمة ضرر كبير تستشعره قوى المقاومة العربية إزاء امكانية تحوّل الصراع في مصر حرباً اهلية. فقد تعزز نفوذ قوى المقاومة الفلسطينية والعربية جرّاء سقوط حكم الاخوان المسلمين الذين ساندوا المجموعات المسلحة ‘المتدينة’ المتفرعة عن تنظيم ‘القاعدة’ او المؤيدة له. ذلك ان سقوط ‘الاخوان’ سمح لقوى المقاومة الوطنية والإسلامية المعادية لحلف ‘الناتو’ بأن تشن هجوماً سياسيا معاكساً ضد نهج الصراع المذهبي السنّي الشيعي، وان تشدد على مفهوم اولوية الصراع ضد ‘اسرائيل’ ، معنى توسيع دائرة التحالف مع القوى السياسية الديمقراطية المساندة في آن معاً للمقاومة وللإصلاح الديمقراطي والنضال من اجل العدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة المتوازنة.
كل هذه التطورات والتداعيات حملت واشنطن، بشخص وزير الخارجية جون كيري، على نفي صفة الانقلاب العسكري عما حدث في مصر، واصفاً اياه بأنه استجابة من الجيش لمطلب ملايين المصريين من دون الاستيلاء على السلطة. وترَدَدَ ان كيري بدأ يلعب دور الوسيط بين طرفي الصراع، في محاولةٍ للتوفيق بينهما على نحوٍ يكون للاخوان المسلمين دور في سلطة الحكم الجديد.
بذلك يأمل كيري بأن ينجح في اعادة التعاون بين الجيش و’الاخوان’ للحؤول تالياً دون توسّع نفوذ القوى الوطنية من ناصريين ويساريين وليبراليين المعادية لحلف ‘الناتو’ ولمعاهدة السلام مع ‘اسرائيل’.
‘ كانب لبناني
رؤية وتصور جيدين بكل مقاييس النقد الموضوعي تاريخيا ومفاهيميا واستشرافيا …أحسنت وشكرا .
شکرا جزیلا لک دکتور عصام علی هذا التحلیل الدقیق و الواقعی .