الناصرة-“القدس العربي”: استولت دولة الاحتلال على زهرة المدائن، القدس، في دفعتين، ففي المرة الأولىعام 1948، احتلت الشطر الغربي منها بكل أحيائها الجديدة مع عدد من بناياتها في الناحية الغربية، وفي الدفعة الثانية عام 1967 استولت على الشطر الشرقي منها بما في ذلك قلب المدينة البلدة القديمة طبعا وبعض بناياتها في الناحية الشرقية. وفي شطرها الغربي ما زالت منازل القدس العربية شواهد على ازدهارها وفداحة خسارتها وهي تشمل أحياء فلسطينية تاريخية بنيت بمعظمها منذ نهاية الفترة العثمانية وسكنت أقلية قليلة من اليهود في أحياء مجاورة. ويشمل الشطر الغربي من القدس المحتلة الأحياء التالية البقعة الفوقى، البقعة التحتى، الطالبية، القطمون، الحي الألماني، الحي اليوناني، الوعرية، الدجانية، نمامرة، مأمن الله، الراتسبون والثوري (أبو طور) التي استولت إسرائيل على آلاف المباني فيها وما زالت تستخدم للسكن وغيره. تعكس المباني في القدس الغربية تطور الطبقة البرجوازية التي سكنت خارج أسوار البلدة القديمة وهي تمثل حتى اليوم بكامل هيبتها قصورا حجرية مبنية بطراز يدمج بين ملامح العمارة الإسلامية وتلك الأوروبية الحديثة خاصة أن بعض مهندسيها كانوا من الطليان واليونان، كما يؤكد بعض الباحثين والمهتمين بالمجال لـ “القدس العربي”. وتمتاز هذه القصور بجمالية وضخامة نادرتين وتعتبر الأقواس علامتها الفارقة وقبالة كل منها حدائق جميلة تزينها أشجار الليمون والرمان والياسمين بلونيه الأبيض والأصفر.
خارج الأسوار
ويؤكد الباحث بشؤون القدس خليل توفكجي، أن الفلسطينيين المسيحيين دأبوا على البناء والسكن باتجاه الجنوب والغرب من البلدة القديمة قريبا من بيت لحم وحيث كانت قسائم بناء بدأت الكنيسة الشرقية ببيعها بعد الثورة البلشفية في روسيا، أما العائلات الإسلامية البرجوازية فاتجهت لبناء منازلها خارج البلدة القديمة بناحية شمالها. ويشير التوفكجي إلى أن هذه البيوت من تصميم مهندسين أجانب وفلسطينيين، أما البناؤون والنقاشون فهم من بيت لحم وحجارتها الفاخرة المتميزة بصفاء بياضها وقسوتها فهي بمعظمها من منطقة قرية دير ياسين غرب القدس وحيث ارتكبت العصابات الصهيونية مذبحة في أبريل/نيسان 1948 أنتجت جوا من الرعب والترهيب في كل فلسطين. وتعرضت منازل الأحياء الفلسطينية في القدس الغربية لسلب محتوياتها فور الاحتلال وتم تفريغها من مكتباتها العامرة ومنها على سبيل المثال بيت الخبير التربوي الراحل خليل السكاكيني في حي القطمون الذي يستخدم اليوم روضة أطفال. كذلك يشير التوفكجي مؤلف كتاب “الازدهار المعماري العربي في القدس العربية المحتلة” لبيت الفيلسوف الراحل إدوار سعيد في حي الطالبية الذي يستخدم اليوم مقرا للقنصلية اليونانية في إسرائيل.
تعكس المباني في القدس الغربية تطور الطبقة البرجوازية التي سكنت خارج أسوار البلدة القديمة
الملك لله وحده
ومن المشاهد التراجيدية الساخرة وأخرى المشحونة، أنه في واجهة بعض هذه البيوت المسلوبة مثبتة ألواح رخامية نقشت عليها عبارات بالعربية مثل “هذا من فضل ربي” أو “الملك لله الواحد القهار”. ويروي أنسطاس دوميانوس أبو جورج (85 عاما) الفلسطيني من أصول يونانية المتنقل بين القدس وكفركنا في الجليل وبين جزر اليونان في إقامته المتجولة، أن مستوطنا يهوديا يدعى موشيه تورنيتسكي قد اعترف له أنه بقي طيلة ثلاث سنوات لا يقوى على النوم بسبب وخز ضميره لإقامته في بيت عربي مسلوب في حي اليوناني، لكن هذه تبقى حالة نادرة، فبقية البيوت مسكونة بالمستوطنين اليهود ويتنكرون لماضيها في حالة نكران تام تبلغ حد رفض دخول أصحابها الأصليين عندما يزورونها غبا ولإطفاء نار الشوق عندما تقيد وتتأجج. أبو جورج المقيم في الحي اليوناني منذ نحو 60 عاما يقول إن تورنيتسكي ظل يبحث عن صاحب البيت حتى وجده في لندن بعدما هاجر لها من بيروت وسدّد له الثمن الكامل لمنزله في القدس والذي طرد منه عام 1948 لكن هذه الحالة نادرة جدا فبقية البيوت وقعت ضحية السلب والاستيلاء بعد طرد أهلها، كما يؤكد أنسطاس.
قنصليات أجنبية
ويؤكد الباحث الإسرائيلي دافيد كروينكر في كتابه “أحياء القدس” أن هذه الأحياء خاصة حي الطالبية كانت مطلوبة جدا من قبل أساتذة الجامعة العبرية لقربها من عمارة تيراسانطا التي استخدمت مقرا للجامعة بالسنوات الأولى بعد قيام إسرائيل. ويشير إلى المفارقة أن الكثير من هؤلاء المستوطنين محاضرون، باحثون، مؤرخون، أدباء، محامون، أطباء، قضاة وموظفون حكوميون، قد استوطنوا بمنازل العرب في هذه الأحياء. ومن أبرزهم الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر، المؤّرخ المختص بالحروب الصليبية، يهوشع برافر والأديب حاييم غوري ورئيس الكونغرس اليهودي نحوم غولدمان. كذلك من بين هذه القصور الفخمة بيت رجل الأعمال الفلسطيني الراحل قسطنطين سلامة المبني عام 1930 في حي الطالبية وهو وسط ميدان كان يحمل اسمه قبل أن تهود تسميته ليصبح “ميدان وينجيت” ويستخدم البيت اليوم مقرا للقنصلية البلجيكية. وهكذا بيت عائلة طرشة الذي يتميز ببوابة حديدية مزدانة بأعمال فنية نادرة وهو اليوم مقر القنصلية الإسبانية، وليس بعيدا عنه بيت عائلة سنونو المحاط بحديقة فائقة الجمال وبيت هارون الرشيد وبيت واصف بشارات، وهي بيوت كافتها مسكونة من قبل مهاجرين يهود. وتقع في هذه الأحياء داخل القدس الغربية مؤسسات إسرائيلية عامة كمسرح القدس، معهد فان لير للدراسات، منزل رئيس الدولة ومنزل رئيس الحكومة ومرافق اقتصادية وثقافية ومطاعم ومقاهي وبعضها في مبان جديدة وأخرى.
الكنز المفقود
أما عائلة قلبيان الأرمنية الأصل فقد هجّرت من منزلها في حي الطالبية تاركين وراءهم كل شيء تحت القصف والنيران. وتنقل جمعية “ذاكرات” عن أحد أفراد العائلة قوله إنه غادر وأقرباؤه البيت فيما كان يعزف البيانو فتركه مفتوحا ويتابع “تخيّلت أن البيانو ظل يعزف ترانيم الوداع فيما كان أصحابه قد بلغوا القدس القديمة في طريق اللجوء”. وبنى رب العائلة، طبيب معروف، البيت عام 1925 وهو عبارة عن طابقين حجريين مغطى سقفه بالقرميد الأحمر، فيما تكتظ حديقته بأشجار الزينة. وفي العام 1967 وجد صيدلي يعمل في القدس الشرقية أحد أفراد العائلة البيت قد استوطنته عائلتان يهوديتان فقامت مستوطنة تدعى عليزة داوس باستقباله وعن ذلك تقول في شهادة نشرتها “ذاكرات”: “كان بالخمسين من عمره لكنه منفعلا كالطفل وتذكر كل مغز إبرة في البيت الذي لامس جدرانه وتحسسه برفق وشوق بالغين. وقبيل رحيله أعطيته علبة خشبية مليئة بصور العائلة ولما فتحها عاينها برقة والدموع تملأ وجهه وهو يتمتم (هذا هو الكنز المفقود)”. وضمن الشهادة تروي داوس أن د. فيكيان قلبيان وهو طبيب معروف بالسبعين من عمره زار البيت برفقة ابنتيه لاحقا وقال إنه وصل للتو من فرجينيا في الولايات المتحدة حيث استقر وتتابع “كشقيقه الصيدلي الذي زار البيت قبل 32 سنة من قبله بدا الطبيب وكأن عاصفة عاطفية قد هبت في دواخله فتجول داخل البيت من غرفة إلى أخرى وهو يعتذر لي عن الاقتحام. فجأة دعا ابنتيه وقال: هنا المخبأ الذي درجت وأخوتي على الاختباء فيه من أمي وأبي وهو يشير ببنانه نحو مخزن خشبي صغير في ركن المنزل تحت سلم الأدراج. ركع وأخذ يسترق النظر نحو داخل المخزن فيما بدت علامات الارتباك في وجهي كريمتيه.. وفجأة لف الحزن المكان وقمت بتضييفهم بمربى مشمش من صنع بيتي أعددته من ثمار شجرة في حديقة البيت. كان الطبيب يتذوق المشمش وهو يستذكر أنه شارك والده في زرع الشجرة كسائر الأشجار… وتركتهم وعدت وبيدي (هدية) مغلفة بالقماش ولما فتحها سالت الدموع على خديه بعدما شاهد ساعة البيت التي لم ينس رنينها. بخلاف العام 1948 حينما غادرت العائلة الحي نحو القدس القديمة عن طريق حي المصرارة بصفر اليدين حملت هذه المرة ساعة البيت على أمل أن تساهم في جعل أوقاتهم أكثر سعادة”.
بيت الفيلسوف الراحل إدوار سعيد في حي الطالبية يستخدم اليوم مقرا للقنصلية اليونانية
طعم السفرجل في المالحة
وتنشر “ذاكرات” في موقعها صورة “بيت برهوم” في حي المالحة في الشطر الغربي من القدس وقبالته صاحبته معزوزة ديب سرحان التي زارته قبل سنوات لتجده مسكونا من قبل عائلة يهودية بعدما تحولت هي للاجئة في مخيم عايدة. وحسب “ذاكرات” فقد جاءت الحاجة معزوزة (83 عاما) قبل نحو 20 عاما من مخيم عايدة تعتلي الجبال وتنزل السفوح بحثا عن طفولتها الضائعة في المالحة التي تحولت لحي يهودي، ملعب كرة قدم وحديقة حيوانات. وتقول “ذاكرات” إن عودة الحاجة معزوزة المرتدية الزي التراثي لمسقط رأسها حيث ما زالت بيوتها على حالها وكذلك مسجدها، قد حرك فيها قوى جسدية ونفسية كبيرة حتى أشرق وجهها وازدادت رشاقة في خطواتها وهي تعرف كل بيت وساحة وزقاق في المالحة. وفي الصورة تشير الحاجة معزوزة برفقة نجلها لبيت آخر مخاتير المالحة عبد الفتاح درويش ولمسجد عمر بن الخطاب. ويتابع مرافقها موفد “ذاكرات”: “قبالة منزل عائلتها الذي يستولي عليه مستوطنون يهود أصيبت الحاجة معزوزة بالخرس..تحوم حوله كالفراشة تتحسسه وكأنها تلامس حفيدها. وللمرة الأولى اليوم يلف الحزن معزوزة التي لا تأبه بالصعاب وهي في الواقع شعب بكامله. ولم يتردد موظفون بليدو الإحساس بتسمية الشارع المؤدي لبيت معزوزة بـ”الإكسودوس” (الهجرة من أوروبا) وهذا يعبر كيف تدحرجت كارثة اليهود على رؤوس الفلسطينيين”. ويتابع مرافقها: “بعدما لم تتمكن من دخول منزل العائلة لإغلاقه تلك الساعة توقفت عند بيت الجيران التابع لعائلة جادو. تقدمت بضع خطوات وهي تقول: أذكر هذه الشجرة جيدا وتسارع لقطف ثمرة سفرجل تمسح الغبار عنها وتودعها في جيبها قائلة: هذا طعم تلك الأيام..آخذها هدية لزوجي ..ربما يستنشق رائحة المالحة”.
وتستذكر هذه السيدة الفلسطينية في روايتها الشفوية أن سيدة حافية فستانها الأسود ممزق بحضنها طفل جريح مرت بالمالحة وهي تصرخ صباح العاشر من نيسان/أبريل1948 منبأة بمجزرة دير ياسين…وفي مساء ذلك اليوم بدأ عدد كبير من نساء وأطفال المالحة ينزحون نحو بيت لحم.
كل ذهب الدنيا
بيت البرمكي واحد من أفخم منازل القدس الغربية استولى عليه جنود إسرائيليون وحولوه لثكنة عسكرية كونه على تخوم القدس الشرقية داخل حي المصرارة، وقد حوّل الاحتلال البيت إلى متحف يقدم الرواية الصهيونية لمدينة القدس المحتلة. بني البيت عام 1934 على يد المهندس انطوني برمكي أحد أشهر المهندسين المعماريين الفلسطينيين. خلال الانتداب هجر أصحابه لبلدة بير زيت. ويستذكر جابي برمكي أن والده كان يوصيهم بالصبر والسعي من أجل العودة مهما طال الزمان وتابع ” قبل أن نصل بنحو نصف كيلومتر أمر السائق بالتوقف وترجل نحو البيت كي يراه من عدة زوايا ويتحسس حالته، وفور وصوله كان يعاين كل جزء فيه وبدا كأنه يداوي جراح البيت المغتصب ويحاول تخفيف معاناته”. ورفض برمكي محاولات عرض التعويضات عليه من قبل السلطات الإسرائيلية وكان يقول “لو فرشتم لي الدنيا ذهبا ما فرطت بحجر منه” حتى مات عام 1977 فيما انتقل حلم العودة لأبنائه وأحفاده.