ما قامت وستقوم به ‘هيئة التنسيق النقابية’ في لبنان يرقى الى مستوى العصيان المدني. لكن احدا لم يستعمل بعد هذا المصطلح في توصيف ما يجري من تحركات واضرابات وتظاهرات. ربما مردّ الاحجام عن استعمال المصطلح ‘الثوري’ رغبة قادة الهيئة في عدم تخويف المرجعيات السياسية الرسمية واصحاب القرار، لكن، هل يبقى في وسع الجانبين تجاهل واقع الحال اذا ما حلَّ ‘يوم الغضب’ الاربعاء المقبل ولم يقرّ مجلس النواب سلسلة الرتب والرواتب بصيغة مقبولة من ‘هيئة التنسيق النقابية’؟
رئيس رابطة اساتذة التعليم الثانوي واحد ابرز قادة هيئة التنسيق حنا غريـــب رأى ان ‘القضية تجاوزت موضوع سلسلة الرتب والرواتب لتفتح ملف الحقوق وسرقة الناس بحجة تأمـــين الايرادات (للخزينة العامة)، وضرب المعلمين تحديدا (…) الغــاية من السلسلة المسخ ضربُ الاساتذة، وقد بات الامر مكشوفا من خلال قرار منعالتوظيف والوقوف ضد الاجراء والمتعاقدين وحرمانهم من ابسط حقوقهم في الضمان الاجتماعي وبدل النقل وغلاء المعيشة، وبالتالي الغاء المباراة المفتوحة التي كانت مقررة، والابقاء على التعاقد التوظيفي’.
التصعيد في موقف ‘هيئة التنسيق النقابية’ استولد، على ما يبدو، مردودا ايجابيا لدى بعض الكتل البرلمانية. رئيس مجلس النواب نبيه بري بات اكثر انفتاحا على الملاحظات الاساسية التي قدمتها ‘هيئة التنسيق’، موقف بري يؤشر الى ان ثنائي ‘كتلة الوفاء للمقاومة’ (حزب الله) و’كتلة التنمية والتحرير’ (حركة امل) لن يحاربا في الشارع وفي البرلمان مشروعَ السلسلة كما تريده ‘هيئة التنسيق’.
‘كتلة التغيير والاصلاح’ (ميشال عون ) ستحاول استرجاع المزايا والمكاسب التي كانت حققتها اللجنة الاولى التي درست مشروع السلسلة برئاسة امين سر الكتلة النائب ابراهيم كنعان. لكن ثمة ما يشير الى ان قوى 14 اذار المحافظة غير مستعدة لتقديم تنازلات محسوسة تساعد قوى 8 اذار على تدوير الزوايا بشأن مشروع السلسلة.
يتحصّل من كل هذه الواقعات والتطورات انه من المحتمل عدم اقرار السلسلة يوم الاربعاء المقبل بصيغة مقبولة من ‘هيئة التنسيق النقابية’، فماذا ستكون ردة الفعل؟
هيئة التنسيق اعلنت مسبقا موقفها الصارم: ‘اتخذنا توصية مؤلمة لم نكن نريدها على الاطلاق بعدم اجراء الامتحانات الرسمية من ألفها الى يائها في حال استمرار تشاطرهم بعدم الالتزام بالاتفاقات المعقودة معنا، او عمدوا الى تمرير المشروع المسخ’.
بتنفيذ هذه التوصية يتكامل مشهد العصيان المدني الاجتماعي: اضراب وشلل في كل القطاع العام (الادارات والمؤسسات العامة الحكومية) وقطاع التربية والتعليم الرسمي والخاص، وقطاع النقل العام وغيره من الخدمات.
كيف يمكن ان ينعكس هذا العصيان المدني غير المسبوق على المشهد السياسي المنشغل باستحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي في 25 الشهر الجاري؟ وهل يمكن تطوير العصيان المدني الاجتماعي الى عصيان مدني سياسي؟
يحاول الاقطاب الموارنة الاربعة، امين الجميل، ميشال عون، سليمان فرنجية، وسمير جعجع، بدفعٍ قوي من البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، التوصل الى صيغة توافقية يكون من شأنها انتخاب رئيس جديد قبل 25 الشهر الجاري، لكن لا مؤشرات الى نجاح مرتقب في هذا السبيل. صحيح ان جعجع اوحى باستعداده لسحب ترشّحه لمصلحة شخصية مقبولة من قوى 14 اذار، لكن من الصعب جدا، ان لم يكن من المستحيل، ان تتقاطع آراء ومصالح اللاعبين المحليين والاقليميين والدوليين المشاركين بالفصل اللبناني من لعبة الامم على مرشح مقبول في المستقبل المنظور.
كل هذه التحديات والصراعات تدفع بعض القوى السياسية، ولاسيما القوى الوطنية الحية، الى طرح سؤال الساعة: كيف يمكن الخروج من حمأة هذا النظام السياسي الذي بات في حال موت سريري الى نظام اخر ديمقراطي مبني على اسس حكم القانون والعدالة والتنمية؟
في لبنان، لا فرصة ولا قبول بفكرة انقلاب عسكري. جلّ ما يستطيعه الجيش، قيادة وضباطا وجنودا، هو الامتناع عن التحوّل سوطا في يد الشبكة الحاكمة. ذلك بحد ذاته يُعتبر انجازا وطنيا اذ يمكّن القوى الوطنية الاصلاحية من تشديد ضغوطها على اهل النظام الفاسد المنهار بغية فرض الاصلاح السياسي الاساس الذي يفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد، وهو اعتماد قانون ديمقراطي عادل للانتخابات.
في هذا المجال، يجب الاستفادة من تجربة ‘هيئة التنسيق النقابية’ لتكوين مناخ شعبي رافض للنظام السياسي المحتضر وتطويره الى هيئة تنسيق وطنية للقوى السياسية الاصلاحية العابرة للطوائف، بقصد اغتنام الظروف الاستثنائية السائدة لشن عصيان مدني سياسي على الحكومة بكل الوسائل المشروعة بغية حملها على اتخاذ قرارات استثنائية، لعل اهمها:
اولا، وضع قانون ديمقراطي للانتخابات باعتماد نظام التمثيل النسبي وصيغة البلاد دائرة انتخابية واحدة، او اعتماد نظام التمثيل الاكثري وفق صيغة ‘لكل ناخب صوت واحد’، واحالته بصيغة مشروع قانون معجل الى مجلس النواب وفق احكام المادة 58 من الدستور ليصار الى اصداره بمرسوم اذا تعذّر البت به خلال مدة الاربعين يوما المنصوص عليها في المادة المذكورة، او اصداره بمرسوم اذا تعذّر على مجلس النواب الانعقاد، وذلك عملا بنظرية الظروف الاستثنائية واحكام الضرورة.
ثانيا، تقوم الحكومة، خلال المدة التي حددها قانون الانتخابات الجديد، باجرائها تحت اشراف المنظمات غير الحكومية العالمية المختصة بحقوق الانسان والحريات العامة، ووسائل الاعلام اللبنانية والعربية والاجنبية، وحتى باشراف الامم المتحدة اذا اقتضى الامر.
ثالثا، ينتخب المجلس النيابي الجديد رئيسا جديدا للجمهورية، فيقوم لاحقا باجراء الاستشارات النيابية اللازمة لتأليف حكومة جديدة.
رابعا، يقوم المجلس النيابي الجديد، وقد اضحى له طابع تأسيسي ومشروعية وطنية جامعة، بمباشرة عملية حوار شامل من خلال لجانه المتخصصة لتحديد الاولويات الوطنية، السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية، ويتولى تحويلها الى تشريعات بالتعاون مع الحكومة.
خامسا، تتولى لجنة الادارة والعدل البرلمانية، بمشاركة رئيس المجلس الدستوري، ورئيس مجلس القضاء الاعلى، ورئيس مجلس شورى الدولة، ورئيس ديوان المحاسبة، ونقيبي المحامين في بيروت والشمال، مهمةَ اجراء الدراسات واقتراح الصيغ القانونية اللازمة لاعادة النظر باجراءات انتخاب رئيس الجمهورية وصلاحياته، وتنفيذ احكام المادة 22 من الدستور (انشاء مجلس نواب وطني لا طائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) والمادة 95 من الدستور المتعلقة بالغاء الطائفية على مراحل.
قد تبدو هذه المبادرات والاجراءات، في منظور تجارب الماضي التقليدية العقيمة، ثورية وصعبة التطبيق، لكنها ليست كذلك في منظور الظروف الاستثنائية التي تستوجب قرارات استثنائية وشرعية استثنائية.
‘ كاتب لبناني
د. عصام نعمان