المسرح هو أبو الفنون منذ زمن الإغريق والرومان بسبب قدرته أكثر من غيره من الفنون الأدبية على التعبير ونقل الافكار والتجارب والمعارف. لكنه على الرغم من هذه الحقيقة فإن ما كــُتب عنه في البحرين ومنطقة الخليج مقارنة بغيره من الفنون قليل جدا. ولعل تفسير ذلك أن المسرح لم يـُعرف في المنطقة إلا حديثا. إذ لا يوجد ما يشير إلى أن الحضارات الكبرى التي مرت بها جزر البحرين مثلا قد عرفت شيئاً من المسرح بدءاً من العصر الدلموني ومروراً بالعصور الإسلامية وانتهاءً ببداية القرن العشرين.
لكن البحرين يحق لها أن تفتخر بأنها سبقت كل شقيقاتها الخليجيات – بإستثناء العراق الذي عــُرض فيه أول مسرحية في عام 1880 وكانت دينية مسيحية من إعداد الشمـّاس حنا حبشي – لجهة دخول عالم المسرح، مثلما سبقتهن في مجالات حضارية أخرى. فالعمل المسرحي الأول الذي شهدته البحرين كان في 1925 حينما عــُرضت مسرحية ‘القاضي بأمر الله’ على مسرح مدرسة الهداية الخليفية. وهذا إنجاز مثير، خصوصا إذا ما عرفنا أنه قبل 75 عاما من ذلك التاريخ لم تعرف حتى دول أوروبية متقدمة كالنرويج مثلا الفن المسرحي لأن نمو هذا الفن كان محصورا – حتى ذلك التاريخ – في عدد محدود من الدول الأوروبية مثل اليونان وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا وإنجلترا. وفي عام 1928 عـُرضت من فوق مسرح المدرسة ذاتها مسرحيتان أخريان هما ‘ثعلبة’ و’وفود العرب على كسرى’، وفي عام 1939 مسرحية ‘ذي قار’
والملاحظ أن بدايات المسيرة المسرحية للبحرين طغى عليها المسرح التاريخي، الأمر الذي عزاه البعض إلى إكتشاف المدرسين والمدرسات – العرب الذين إستقدمتهم البحرين أن المسرح هو أفضل وأسهل وسيلة لإيصال معاني التاريخ الإسلامي لطلابهم.
ونرى هذا جليا في عناوين كل المسرحيات التي قدمت في العشرينات والثلاثينات وبدايات الأربعينات. فإضافة إلى المسرحيات آنفة الذكر، عـَـرضت المدرسة الخليفية للبنات بالمنامة مسرحية ‘فضائع الطليان في طرابلس الغرب’، وعرضت المدرسة الأهلية، التي أسسها الشاعر إبراهيم العريض في المنامة مسرحيتي ‘وامعتصماه’ و’بين الدولتين’ إضافة إلى مسرحية ‘وليم تل’ بطل إستقلال سويسرا التي كتبها العريض بالإنجليزية.
بل نجد ذلك أكثر وضوحا في المسرحيات التي عـُرضت على مسرح مدرسة الإصلاح الأهلية، التي أنشأها الشاعر عبدالرحمن المعاودة. حيث تم تقديم مسرحيات ‘سيف الدولة بن حمدان’، و’الرشيد وشارلمان’، و’سقوط بغداد’، و’عبدالرحمن الداخل’، وكلها مسرحيات تاريخية شعرية. ولهذا السبب أطلق على المعاودة لقب ‘أبو المسرح الشعري’.
وتعتبر أربعينات القرن العشرين عقدا مفصليا في تاريخ الحركة المسرحية البحرينية لأنه شهد إنتقال قيادة الحركة من مسارح المدارس الرسمية والخاصة إلى مسارح الأندية الأهلية التي بدأت في الظهور تباعا منذ تلك الفترة. ومن أمثلة الأندية التي أخذت على عاتقها النهوض بالحركة المسرحية: نادي البحرين ونادي الإصلاح بالمحرق، ونادي العروبة والنادي الأهلي بالمنامة. ومما لاشك فيه ان هذه الأندية، بقيادتها للحركة المسرحية البحرينية، أدخلت عليها صورا ومفاهيم جديدة مثل الإبتعاد عن المواضيع التاريخية القديمة، والتركيز بدلا من ذلك على القضايا العامة المعاصرة، وإنْ لم تتخل نهائيا عن تقديم المسرحيات التاريخية بدليل أن نادي البحرين قدم مسرحية ‘ مجنون ليلى’ لأحمد شوقي في 1940 ، ثم قدم في 1943 مسرحيتي ‘كليوباترا’ لشوقي، و’قيس ولبنى’ لعزيز أباظة.
وبالتزامن مع هذه التحولات ووجود البيئة الثقافية والأدبية الخصبة، ظهر العديد من الكتاب الذين أخذوا على عاتقهم كتابة نصوص مسرحية تعالج قضايا البحرين والعالم العربي الإجتماعية والسياسية المعاصرة، كما ظهر العديد من النقاد الذين تخصصوا في نقد المسرح البحريني.
وفي أوائل الخمسينات كانت البحرين على موعد مع ظهور أولى فرقها المسرحية (ندوة الفن والأدب). ولم ينتصف هذا العقد إلا وكانت الفرقة المسرحية الثانية قد ظهرت تحت إسم ‘الفرقة التمثيلية المتنقلة’ والتي هدفت إلى نقل النشاط المسرحي إلى مناطق وقرى البحرين المختلفة، لكنها توقفت بعد أن قدمت في 1955 ثلاث مسرحيات قصيرة في عرض واحد هي: ‘الإنسانية المشردة’، و’صرخة لاجيء’ و’الضمير’. وفي 1956 شكل بعض أعضاء هذه الفرقة كيانا جديدا عــُرف بإسم ‘فرقة البحرين’ التي تحولت بعد عام إلى ‘أسرة هواة الفن’ وهي مجموعة من الشباب جمعت بين فنون الغناء والعزف والتمثيل والفن التشكيلي، قبل أن تحصر نشاطها في المسرح. وقدمت ‘أسرة هواة الفن’ منذ بدء مسيرتها الفنية في 1957 مجموعة كبيرة من الأعمال المسرحية مثل: ‘إخلاص’ من إقتباس يوسف أحمد حسين، و’الأمل’ من تأليف وإخراج المدرس المصري عبدالرحمن رفعت النجدي، و’أعمامي الثلاث’ من تأليف عبدالله أحمد وإخراج عبدالرحمن بركات. هذا قبل أن تتوقف ‘أسرة هواة الفن’ في 1975 عن تقديم المسرحيات، مفضلة تقديم الفواصل التمثيلية في الحفلات الغنائية والموسيقية.
أما في عقد السبعينات فإن الحركة المسرحية في البحرين أخذت مسارا أكثر تنظيما وإجادة بسبب إزدهار حركة الكتابة في البلاد، وبروز فرق مسرحية جديدة في تلك الحقبة. من هذه الفرق مسرح الاتحاد الشعبي الذي تحول لاحقا إلى ‘مسرح أوال’، وهو المسرح الذي قدم منذ ولادته عشرات المسرحيات المحلية والعربية والعالمية، وشارك في العديد من المهرجانات العربية والإقليمية، ووقفت وراءها أسماء أدبية وفنية رفيعة من أمثال قاسم حداد ومحمد عواد وراشد المعاودة وراشد نجم وعبدالله يوسف وخليفة العريفي. وعلى نفس المنوال ساهم مسرح الجزيرة منذ ولادته في سبعينات القرن الماضي في إثراء الحركة المسرحية البحرينية من خلال أعماله الموزعة ما بين المحلية والعالمية ومشاركاته في المهرجانات الخارجية.
ومما لوحظ على الاعمال المسرحية التي قــُدمت في السبعينات والثمانينات ومطلع التسعينات تميز معظمها باللغة النقدية الساخرة، وتناولها لقضايا سياسية واجتماعية من تلك التي كانت تشغل بال السواد الاعظم من الناس بأسلوب كوميدي، وباستخدام اللهجة العامية. نجد هذا متجسدا في الاعمال التي قدمها ‘مسرح أوال’ آنذاك مثل مسرحيات ‘كرسي عتيج’، و’السالفة ومافيها’، و’أنا وإنت والبقرة’، و’سبع ليالي’، و’ح.ب’، و’سوق المقاصيص’، و’خميس وجمعة’، و’بنت النوخذة’، و’حليمة ومنصور’، وغيرها. ومن خلال هذه الأعمال وما تبعها برزت أسماء بحرينية كثيرة في الإخراج والتأليف المسرحي، غير من تم ذكرهم آنفا، مثل: قحطان القحطاني، وعبدالله ملك، وعقيل سوار، وعلي الشرقاوي، وجمعان الرويعي، وجاسم شريدة، وعبدالله سويد، وأمين صالح، وإبراهيم بحر، وإبراهيم خلفان.
وفي مطلع التسعينات شهدت البحرين ميلاد فرقة مسرحية جديدة هي ‘مسرح الصواري’ الذي حاول الخروج على المعتاد، وتميز بتقديم فنون مسرحية جديدة من تلك التي تجبر المشاهد أن يتفاعل مع العرض بكل حواسه. ومن بين من برزوا من خلال ‘مسرح الصواري’ الممثل والمخرج المسرحي ‘عبدالله السعداوي’ مخرج مسرحية ‘الكمامة’ لألفونسو ساستري التي حصدت جائزة الإخراج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في 1994 ، والفنان الناقد يوسف الحمدان وزميله إبراهيم خلفان، والفنان خالد الرويعي.
‘ كاتب وباحث من البحرين