يثير ارتفاع سعر الدولار في أكثر من دولة عربية احتجاجات شعبية واسعة بعد أن أدى التضخم إلى تآكل القوة الشرائية لدخل شرائح واسعة من شعوب هذه الدول التي تنحدر رويدا إلى مستوى متدن يصل إلى حد الفقر أو تحت خط الفقر.
وهذا ما ينذر بمجاعة للبعض، وانتفاضات للبعض الآخر وبنظرة إلى أسعار عملات بعض هذه الدول مقابل الدولار ندرك أن هناك أزمة اقتصادية حادة لا حل لها حسب كل المعطيات والدراسات على المستوى المنظور. ولكن قبل ذلك لماذا الدولار؟
منطقة بروتون وودز
عقدت اتفاقية بروتون وودز في 1 يوليو/ تموز 1944 في فندق جبل واشنطن في منطقة بروتون وودز بحضور 730 موفدا من 44 دولة بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، إذ قامت الحكومة الأمريكية بدعوة 44 دولة للاتفاق على نظام نقدي دولي جديد، وتهدف الاتفاقية إلى الثبات في السياسات النقدية وأسعار صرفها، وانبثقت عن هذه الاتفاقية عدة مؤسسات دولية بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة:
البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (غات). ويعد نظام ثبات أسعار صرف العملات حجر الزاوية في اتفاقية بريتون وودز، إذ يقوم على أساس “قاعدة الصرف بالدولار الذهبي” وبذلك تحول الدولار من عملية محلية إلى عملة عالمية لاحتياطات البنوك المركزية.
وعليه تم وضع قاعدة اقتصادية تحتم على الدول الأعضاء تحديد قيمة تبادل عملاتها بالنسبة للذهب أو بالدولار الأمريكي على أساس الوزن والعيار النافذين في أول حزيران/يونيو 1944 وقد حدد سعر الدولار ب0,88671 غرام من الذهب الصافي.
وقامت الولايات المتحدة بالاتفاق مع الدول الأعضاء بتبديل حيازتها من الدولارات الورقية بالذهب بسعر محدد وثابت هو 35 دولارا للأونصة، وكانت النتيجة تساوي الدولار بالذهب في السيولة وأصبح الدولار إحتياطيا دوليا.
استمر العمل بنظام بروتون وودز لغاية 15آب/أغسطس 1971 بعد إعلان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وقف قابلية تبديل الدولار بالذهب. وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة “التعويم” التي تعني ترك سعر صرف العملة يتحدد بحرية وفق آلية العرض والطلب في الأسواق.
(ألغيت اتفاقية بروتون وودز لعدة أسباب منها بروز قوى اقتصادية جديدة في أوروبا واليابان، ورفض بعض الدول الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، ومنها فرنسا تحت حكم الجنرال ديغول الذي طالب أمريكا باسترداد ذهب فرنسا مقابل دولاراتها المخزونة في البنك المركزي الفرنسي)، لكن ورغم إلغاء اتفاقية بروتون وودز إلا أن الدولار بقي العملة العالمية الأكثر تداولا في التجارة وخاصة تجارة الطاقة من نفط وغاز، ولم تتمكن أي عملة أخرى حتى العملية الأوروبية الموحدة (اليورو) لم تستطع أن تحل محل الدولار.
لا شك أن الدول ذات الاقتصاد القوي لا تتأثر عملتها كثيرا بسعر الدولار إلا في حالات نادرة عندما تحدث هزات اقتصادية كبرى كما حصل في العام 2008. لكن بالتأكيد أن الدول النامية ذات الاقتصاديات الضعيفة هي الأكثر عرضة لتقلبات أسعار الدولار. وكذلك الدول التي تدخل في أزمات سياسية تنعكس سلبا على اقتصادها، وخاصة استشراء الفساد، وعدم وجود سياسة اقتصادية حكيمة، وخطط تنمية، تجعل من الدولة قادرة على زيادة انتاجها وتسويقه للحصول على العملة الصعبة الضرورية لعملية الاستيراد من ناحية، ودعم العملية المحلية من ناحية أخرى (مثال سنغافورة في آسيا، ورواندا في إفريقيا اللتان حققتا نجاحا اقتصاديا مبهرا في وقت قصير نسبيا). فماذا يمنع بعض الدول العربية التي تعاني اليوم من تدهور اقتصاداتها وبالتالي هبوط أسعار عملتها مقابل الدولار؟
في سوريا وصل سعر الدولار إلى 6700 ليرة سورية بعد أن كان سعره في العام 1970 عام انقلاب حافظ الأسد وسلبه للسلطة 3,60 ليرة سورية للدولار الواحد. أي أن خلال نصف قرن ونيف من حكم آل الأسد لسوريا لم تتم المحافظة على هذا السعر بل كان يرتفع تدريجيا، وتفاقم بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011.
والأسباب الواضحة والتي لا تخفى على أحد تتمثل أولا بإخفاء عائدات النفط السوري والتي لم تكن تدخل في الميزانية السنوية بل تحول إلى حسابات خارجية، ومع اندلاع الثورة وقعت الحقول النفطية تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية المدعومة أمريكيا، وبروز طبقة رجال أعمال هيمنت على الاقتصاد السوري وخاصة من أقرباء ومقربين من النظام مثل رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد وعشرات آخرين جعلوا من سوريا “بقرة حلوبا” يستغلونها دون حساب. وبالطبع لم تكن هناك أي خطة اقتصادية محكمة لتنويع الإنتاج وتطويره وتسويقه لزيادة الدخل القومي، وإذا علمنا أن متوسط دخل الفرد في سوريا اليوم يعادل 20 دولارا شهريا نتصور كيف أن مع كل ارتفاع لسعر الدولار سيقابله انخفاض في القوة الشرائية للفرد، وللحصول على العملة الصعبة اليوم يقوم النظام بزيادة انتاج بترويج صناعته الجديدة: “الكبتاغون” وأصبحت سوريا أول مصدر لهذا المخدر في العالم.
وقد حذرت أكثر من منظمة دولية من حدوث مجاعة مفجعة في سوريا.
الدولار في لبنان
أما في لبنان فقد وصل سعر الدولار حوالي 50 ألف ليرة لبنانية، علما أن سعره في العام 1970 كان 1,30 ليرة لبنانية، أي أنه وخلال نصف قرن تقريبا وصل إلى الرقم الفلكي 50 ألف ليرة. (ويجب أن نذكر أن الشيخ رفيق الحريري عندما تولى رئاسة الوزارة قد ثبت سعر الدولار بـ 1550 ليرة لبنانية بعد الحرب الأهلية اللبنانية).
وبالطبع أن السعر الجديد لم يأت عبثا بل من جراء سياسات اقتصادية خاطئة، وأزمات سياسية حادة، وفساد إداري ومالي، وقضائي (يتم حاليا استجواب حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة بتهمة الفساد المالي)، وإزاء هذا التدهور هناك غليان شعبي في لبنان الذي وصل دخل الفرد فيه إلى مستويات متدنية جدا، وأشارت مؤسسات دولية أن متوسط مصروف الفرد في لبنان لضمان الحد الأدنى من المعاش هو 23 مليون ليرة شهريًا. وتحولت بذلك الطبقة المتوسطة إلى طبقة فقيرة، والفقيرة إلى تحت خط الفقر.
في العراق يعاني العراقيون من الأزمة نفسها فقد وصل سعر الدولار بالنسبة للدينار إلى 1660 دينارا، مع العلم أن الدينار العراقي في العام 1970 كان يساوي 2,8 دولار، أي أن العملة العراقية كانت أقوى من الدولار.
وقد اندلعت احتجاجات شعبية كبيرة لتدني مستوى المعيشة، وطالبت بالحد من الفساد المالي الكبير الذي تعاني منه الدولة.
وتعاني مصر أيضا من ارتفاع سعر الدولار الذي وصل إلى أكثر من 30 جنيها للدولار الواحد بعد أن كان الجنيه في العام 1970 يعادل 2,5 دولار، وذكرت صحيفة “فايننشال تايمز” أن اقتصاديين مصريين اشتكوا من دور الجيش في الاقتصاد. ما يخيف المستثمرين.
هذه لمحة مختصرة عن الواقع المعيشي لبعض الشعوب العربية التي تعاني من الفقر والحرمان وانسداد الأفق بسبب تدهور عملاتها وانهيار اقتصادها، وتعددت الأشكال والأسباب واحدة.
كاتب سوري