من المسجد إلى الديسكو!

دعونا أولاً نعترف بأن كل الدول الديمقراطية والديكتاتورية تصنع أساطيرها وخرافاتها الخاصة للتحكم بالشعوب وتسييرها في الاتجاه الذي تريده. وقد اعترف المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي بأن الغرب هو أكثر من يتلاعب بالشعوب عن طريق الإعلام لتمرير مخططات الطبقات الحاكمة التي تملك الثروات والإعلام. البعض مثلاً يعتبر انتشار الديسكوات والمراقص والبارات والخمور في الغرب كنوع من التحرر، بينما يراها كثيرون على أنها وسائل مفضوحة لتخدير الشعوب وإلهائها وتفريغ طاقاتها بعيداً عن السياسة وألاعيبها كي تخلو الساحة للمتلاعبين بمصائر الشعوب ليفعلوا ما يريدون.
ومنذ القرن التاسع عشر استخدموا الجنس لإشغال الناس به وإبعادهم عن القضايا الجوهرية. وعندما يتوجه الشبان والشابات إلى الحانات والمراقص في نهاية الأسبوع أو خلال أيام الأسبوع في الغرب، فهم يفجّرون طاقاتهم إما بالمشروبات الكحولية، أو بالرقص الجنوني، أو بالجنس. وبذلك تكون الطبقات الحاكمة قد نفّست الاحتقان الموجود في المجتمع بطريقة ذكية، لا بل إنها تتباهى أمام العالم بأنها متحررة وتسمح لشعوبها بممارسة حياتهم الجنسية والاجتماعية بحرية. ولا شك أن كثيرين في بلادنا المقموعة سياسياً واجتماعياً يرون في هذا النوع من الحرية الغربية تحرراً، بينما هو في الواقع طريقة شيطانية للتحكم بالشعوب وتوجيهها باتجاه الاستهلاك والمتعة واللهو والتجهيل.
وكم يشعر الشباب الغربي بالمتعة والحبور والزهو، ويفّرغ طاقاته المكبوتة، وهو يتابع «بنات الأصفر» الشقراوات الجميلات في النوادي والحانات والبارات، وينسى الدنيا وما عليها في الـ«Weekend»، وفساد حكوماته وأنظمته «الإمبريالية» الاحتكارية وممارساتها وانتهاكاتها على المسرح الدولي، ولا يكاد يصحو من تلك الحالة من النشوة والمرح حتى يجد نفسه أمام نهاية أسبوع جديدة ليدخل في نوبة أخرى من النشوة، وهكذا دواليك تستمر الحياة برتابتها تلك فيما تمارس تلك الأنظمة سياساتها الشريرة وهي مطمئنة ومرتاحة البال.
ولا ننسى أن أنظمة كثيرة في الشرق والغرب تستخدم أيضاً الرياضة لإلهاء الشعوب، فقد اعترف سياسيون باكستانيون أكثر من مرة بأن لعبة الكريكيت في باكستان مثلاً هي أشبه بأفيون الشعب الباكستاني الذي يلتهي بها بعيداً عن الحكومة والسياسيين كي ينسى مصائبه وكوارثه. صحيح أن الناس تحب الرياضة وكرة القدم وحتى الكريكيت، وهي أصبحت صناعة أكثر منها رياضة، لكن في الوقت نفسه فهي وسيلة مضمونة وسهلة للتحكم بالشعوب وتسييرها في الاتجاه الذي يخدم سياسات الأنظمة وتوجهاتها.

بما أن مهمة الوهابية قد انتهت الآن ولم يعد هناك خطر شيوعي يواجه أمريكا والغرب عموماً فلا بأس من القضاء على الوهابية

لا بد إذاً لكل نظام أن يجد الطريقة الأمثل لحكم الشعب. ولا بأس في اختراع الأساطير أحياناً. ولا ننسى أن المفكر الفرنسي الشهير روجيه غارودي اتهم إسرائيل بأنها صنعت أساطير لا وجود لها لاحتلال فلسطين. إذن لعبة صنع الأساطير واستغلالها سياسياً لعبة مفضوحة وليست نادرة. وقد قالها المفكر الكبير كارل ماركس قبل أكثر من مئة عام إن من بين المخدرات التي تستخدمها الأنظمة والحكومات لتخدير شعوبها واللعب بها هو الدين. وقد قال ماركس قولته المشهورة التي مازال العالم كله يرددها حتى الآن وهو أن «الدين أفيون الشعوب». ولطالما استغل الحكام والأنظمة الدين كل بطريقته لقيادة شعبه وتوجيهه كما يشاء. ولا شك أننا لاحظنا أن الأنظمة العربية تستخدم الدين بطرق مختلفة، فالأنظمة التي ترفع شعار العلمانية مثلاً تقوم بتعيين رجال دين ومفتين هم أقرب إلى العلمانية منها إلى الإسلام. وهم دائماً قادرون على تصوير الدين الإسلامي على أنه دين علماني. وبما أن القرآن حمّال أوجه كما قال عنه سيدنا علي، فالمفتي في بلد كسوريا مثلاً قادر أن يجد لك عشرات الأمثلة ليثبت نظريته بأن الإسلام دين علماني كي يجاري توجهات النظام الذي يريد إسلاماً فضفاضاً على مقاسه. باختصار فإن الدين أداة سياسية لا أكثر ولا أقل، بدليل أن السعودية مثلاً تعمل الآن على نقل الشعب السعودي من الوهابية المتزمتة إلى الليبرالية المنفلتة من عقالها. وعندما سئُل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن مسؤولية المملكة عن صناعة التطرف والوهابية في أمريكا قال بدون تردد إن السعودية لم تصنع الوهابية، بل إن أمريكا هي من طلبت منها صناعة إسلام متطرف لتواجه به الشيوعية التي كان يقودها أثناء الحرب الباردة الاتحاد السوفييتي. وكلنا يتذكر كيف فتحوا عشرات الجامعات الإسلامية وخرّجوا عشرات الألوف من الدعاة والدكاترة، حيث كان بعض الدكاترة يدرس سنوات وسنوات ليحصل على شهادة دكتوراه في فقه الدخول إلى الحمام على الطريقة الإسلامية. لم يتركوا شاردة وواردة إلا وأصّلوها دينياً، ثم راحوا الآن يضعون من كانوا يسمونهم دعاة وعلماء وراء القضبان لأنهم باتوا يشكلون خطراً على العهد الجديد الذي يتخذ من الليبرالية المتوحشة شعاراً له.
بعبارة أخرى، بما أن مهمة الوهابية قد انتهت الآن ولم يعد هناك خطر شيوعي يواجه أمريكا والغرب عموماً، فلا بأس من القضاء على الوهابية وحتى على الدين نفسه واستبداله بصرعة جديدة تناسب العصر والمصالح الغربية ومصالح حكام السعودية الجدد. لم يعد المسجد الآن شعار المملكة بل صارت المسارح والمراقص هي قبلة الشباب. ولا تنسوا أنهم أزاحوا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الواجهة، واستبدلوها بهيئة الترفيه المختصة بالرقص والنقص، و«هز يا وز».
وفي مقابل البار ووظيفته التنويمية تلك، يقف المسجد كسلاح وأداة أيضاً بيد أنظمتنا العفنة المعفنة النتنة المسرطنة، ليقوم بالدور نفسه والوظيفة نفسها. بالأمس كان مطلوباً من السعوديين مثلاً أن يصفقوا للشيخ محمد العريفي وسليمان العودة وسفر الحوالي وعوض القرني، واليوم صار مطلوباً منهم الرقص مع ماريا كاري ونجوى كرم وماجدة الرومي وراغب علامة. طبعاً لا نقول هنا إن شيوخ السلاطين أفضل للشعوب من ماريا كاري، لا أبداً، لا بل إن ماريا وغيرها من الفنانات والراقصات أفضل من الدجالين والأفاقين الذين استخدمهم الحكام لغسل أدمغة الشعوب والتلاعب بها وتلويثها وإفسادها على مدى عقود بالهرطقات والتطرف والخرافات. لكن العبرة ليست هنا، بل في أن حتى الدين لم يسلم من قذارات الساسة والسياسيين والمصالح السياسية الحقيرة. وستبقى الشعوب مجرد قطعان اليوم يسوقونها شرقاً وغداً غرباً…اليوم إلى المسجد إلى الديسكو أو العكس. ورقصني يا جدع!
وهكذا، فالدين، ها هنا، ومن هذا المنظور يلعب الدور نفسه في هذه الديار ويقوم مقام أدوات التخدير والإلهاء في الغرب.

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تونس الفتاة:

    نعم الدين أداة سياسية …فى ايدى الديكتاتوريات من كل الأنواع و أداة سياسية أيضا فى ايدى جماعات الخراب و الإرهاب و التجارة بالدين من كل الأنواع و الاشكال …او ما يسمى عموما الاسلام السياسي ….حتى فى الحياة العامة أصبح أداة للتحيل فى بغض الاحيان ….حجاب للتزوح و الترويج لما يسمى العفة الشكلية و لحية للورع و …و….و…

  2. يقول ابن الجاحظ:

    مقارنة ما يجري فى الغرب بمثله عندنا تبدوا شيئا ما غير موفقة …..الحرية …الحرية …يا أستاذ هى الحل .
    الغرب بحاناته و كحوله و حريته الجنسية ارتقى بشعوبه الى الحضارة و العلم و التكنولوجية …أما نحن …..فخارج الحضارة الانسانية …..

  3. يقول بسيط:

    الاحتلال الغربي هو من زرع الصهاينة في فلسطين و آل الرز في الخليج لكنه يوشك على نهايته لأن هذا الزرع غريب على الأرض التى تحمله

  4. يقول سفيان المبارك:

    “الخبز و السيرك”اسلوب اباطرة روما ليتمتعو بترف مطلق و يجهدو االرومان بالضرائب مقابل حفلات الهرج والدم بمدرجات روما و توزيع الخبز فقط كمعونة اجتماعية تهدىء الفقراء وتمنعهم من الثورة!

  5. يقول خليل ابورزق:

    قال جوبلز وزير الدعاية النازي : كلما سمعت كلمة “ثقافة” تحسست مسدسي. و اقول كلما سمعت كلمة “تجديد الخطاب الديني” تحسست قلمي و تلفت لأجد انها كلمة حق يراد بها باطل و فصل آخر من استغلال الدين لخدمة السياسة و ليس العكس. هكذا كان الحال دائما و يكون و سيكون.
    كم منطق فيه الحقيقة تقلب؟؟ ياناس الدين ثابت و السياسة هي المتغيرة. الذي نحتاجه هو تجديد الخطاب السياسي و ليس الديني

  6. يقول سامح //الأردن:

    *لخص السالفة بطريقة ساخرة جدا
    (السيسي ) عندما خاطب الشباب
    قائلا (خليك مع كيكي وإحنا نرفع البنزين)؟
    *عموما ؛ صحيح حكومات (الغرب )
    تستغل أحيانا شعوبها وتضحك عليهم
    ولكن تقدم لهم خدمات راقية
    وصحافة حرة تكشف ألاعيب الحكومة.
    *عندنا ف الوطن العربي لا خدمات
    ولا تعليم ولا صحة ولا حرية صحافة.
    *سياسة الحاكم (العربي) من ليس معي
    فهو ضدي ويرميه بالسجن.
    حسبنا الله ونعم الوكيل.
    سلام

  7. يقول رؤوف بدران-فلسطين:

    مساء الصمت والاصغاء عزيزي الكروي داود , استخدامك لمثال السيارة والسائق مقابل الدين والمتدين غير موفق وليس في محله , مثلما يقف المسجد كسلاح وأداة أيضاً بيد أنظمتنا العفنة المعفنة النتنة المسرطنة، ليقوم بدور البار نفسه , كقول السيد الكاتب فيصل القاسم , يقف المسجد أيضا كأداة بأيدي الأصوليين الشهوانيين لاستغلال المسلمات الغلبانات ولإيقاعهن في فخ التعدد , فمن يسيء إلي الإسلام ويشوهه بشكل واضح إضافة إلى أنظمتنا العفنة المعفنة النتنة المسرطنة هو كل من يؤمن بالتعدد ويمارسه باستغلال المسلمات الضعيفات , رغم هناك إشارة واضحة في كتاب الله إلى إلغائه نهائياً …وكثير من العلماء يؤكدون ذلك والسلام.

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      لا أعتقد بأن الذي كتب هذا زميلي العزيز رؤوف بدران! أخلاقه أرفع وأسمى!! والتعدد مازال مباح بهذه الحياة والحياة الأخرى!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  8. يقول ضمير حي.:

    حفلات الترف والمجان ليست بجديدة على النظام السعودي ،فقد حدثت في السرية وحرمت على شعوبها ،طبعا كما ذكرت لتفيد الاجندة السياسية للحكم السعودي ، والدين في السعودية هو عصب الحياة الاقتصادية بسبب الحج والعمرة . والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو مستقبل الحج والعمرة في ظل التغيرات التي تحدث في بلاد الحرمين ،فهي تفقد مصداقيتها ام انها تصبح فقط سياحية دينية ؟

  9. يقول صالح/الجزائر:

    أن تستفيق متأخرا أهون من أن لا تستفيق أبدا .

  10. يقول آلِ حرشان:

    يا ريت صدام لم يمت ويموت معه العرب! قديما أجبرنا على تقبل معاهدة سايكس بيكو على مضض واليوم نوقعها بايدينا بل ونبشر بها !!! تنازلنا بمحض ارادتنا وبفعل الجود العربي وكرامة حاتم الطائي على اربع عواصم عربية لفائدة الفرس المجوس والباقي استحوذت عليه تركيا وأمريكا،، في الخليج. فرنسا وضعت يدها على الحزائر وتونس وليبيا تنتظر الجلاد ين اما فرنسا ام إيطاليا! بينما العرب مازالوا حريصين على سفاسف الامور مثل اللحية، والحجاب ومسح الرأس كاملا او نصفه عند الوضوء،،، يجوز،،، لا يجوز،،، بينما دويلات الخليج تلعب دور المافيات لحساب اسيادهم

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية