هذا الأسبوع كنت أبذل ضائعا، بحثا عن رسالة من الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، للتمثّل بها عن حالة أدبنا نحن العرب، في المشهد العالمي حين سألتني حفيدتي وهي تلميذة صغيرة في الابتدائي، ما إذا كنت أملك كتبا لمصطفى لطفي المنفلوطي؛ حتى تطالعها أثناء العطلة. كانت ذاكرتي تغلي ولا تهدأ، وأنا تحت وطأة شعور بغياب الوقت؛ وكأنّني في حقل من الرنين المغناطيسي. كنت في رفقة سلمى عام 1984 في مكتبة جائزة نوبل؛ في ملتقى الشعر العربي السويدي الأوّل والأخير، وبقيت ذكرى المكتبة عالقة بذاكرتي؛ وأنا أقلّب أرشيف أوراقي حينا، وأدير حاسوبي حينا، ولا أدري ما إذا كانت رسالتها ورقيّة أو إلكترونيّة.
قلت لحفيدتي إنّ مكتبتي صارت منذ سنوات أقرب إلى مجال اختصاصي وهوايتي الأدبيّة؛ وقد تخلّصت من كثير منها كان يزحم الرفوف ويفيض عليها بلا فائدة؛ وكان أن أهديتها إلى إحدى دور الثقافة عسى أن ينتفع بها روّادها. ثمّ حدّثتها بشيء من الإسهاب عن المنفلوطي وعن طائفة من الكتّاب والشعراء مثل جبران ونعيمة والرافعي وطه حسين وأحمد تيمور ويحيى حقّي… ممّن تعلّم عليهم أبناء جيلنا أصول العربيّة؛ وجرت مصّنّفاتهم منّا مجرى المحفوظ المأثور. وبفضلهم كنّا ندير العربيّة على ألسنتنا بكثير من اليسر، ونحن يافعون في العاشرة من أعمارنا؛ بل كان منّا من لم يشارف الاحتلام؛ ومع ذلك أدركنا وبلغنا مبالغ الكبار، بل إنّ منّا ونحن في تلك السنّ، من كان يحاول القصّة والخاطرة، والشعر الموزون مقلّدا جبران وإيليا أبو ماضي والشابي، على الرغم من أنّ وسائل تحصيل الكتاب كانت تعوز أكثرنا في تلك الأعوام. وقلت لحفيدتي إنّني لا أتوقّع أن تجد أيّ كتاب للمنفلوطي أو غيره من أعلام النصف الأوّل من القرن العشرين في المكتبة العموميّة، ناهيك عن مكتبة المدرسة أو المعاهد الثانويّة في بلادنا. وقد ولّى ذلك الزمان الذي كان فيه لمكتبة المدرسة شأن أورثنا ملَكة في اللغة، وعزّز إحساسنا بها؛ وصارت أكثر مدارسنا اليوم خالية من هذه المكتبات على أهميّتها في خدمة مناهج التعليم واستكمال الفروض المطلوبة من التلميذ. ولنا أن نسأل ونتساءل ونحن نعيش في تونس منذ ثورتها أو ربيعها عزوفا عن الكتاب والتعليم العمومي: ما الحامل على ذلك؟ أهي دعوى التيسير والتسهيل وقد صار التلميذ يجد ضالّته في الإنترنت، وفي سائر الوسائل السمعيّة البصريّة الجديدة؛ وهي التي ليس بميسورها أن تنوب مناب الكتاب؟
ولّى ذلك الزمان الذي كان فيه لمكتبة المدرسة شأن أورثنا ملَكة في اللغة، وعزّز إحساسنا بها؛ وصارت أكثر مدارسنا اليوم خالية من هذه المكتبات على أهميّتها في خدمة مناهج التعليم واستكمال الفروض المطلوبة من التلميذ.
وعلى ضرورة تنسيب الحكم، فالتلميذ في الريف لا يحظى بما يحظى به قرينه في المدينة؛ نقول إنّ ما بين أيدي تلاميذنا من وسائل تحصيل العلم والمعرفة، يظلّ أدنى من المأمول المنشود بكثير. ويحسن بنا أن نقرّ بأنّ غياب المكتبة المدرسيّة أو إهمالها؛ هو من أظهر الأسباب التي أورثت التلميذ والطالب عامّة عجزا يأخذ بلسانه فينعقد، وبقلمه فلا يسيل؛ فيرتج عليه كلّما أراد الكلام، ويخلط عربيّا بعاميّ أو عجميّ؛ ناهيك عن مساخر الخطأ واللحن وأضاحيك النطق والعجْمة، وكلّ ما يؤذي السمع ويعمي القلب. ويعرف كثير منّا نحن الذين أفنينا أعمارنا في سلك التعليم، الدور الذي تنهض به المكتبة المدرسيّة الحديثة لا في بلدان الغرب المتقدّم وحسب، وإنّما في بعض البلاد النامية أيضا، حيث أدرك القائمون على شؤون التعليم فيها أنّ هذه المكتبة تضمن للتلميذ؛ وهي حقّه على الدولة، اكتساب جملة من المهارات مثل إتقان القراءة والكتابة، والحصول على المعلومة من مصادرها الموثوق بها، وكيفيّة التعامل معها؛ بدل النقل والنسخ عن المواقع الإلكترونيّة المتهافتة غير الموثوق بها مثل «ويكيبيديا» وغيرها. وكلّنا يدرك اليوم أنّ عصرنا هو عصر «فيضان المعلومات» أو «انفجار المعلومات» كما يسمّي البعض عن حقّ هذه الظاهرة تشبيها لها بالانفجار السكّاني.
وأذكر أنّني قرأت منذ سنوات، بلغة الأرقام؛ أنّ المطابع تصدر سنويّا في جميع أنحاء العالم على أكثر من مليون كتاب ودوريّة وموادّ سمعيّة بصريّة ومثلها من المصغّرات الفيلميّة والأقراص والأشرطة والاسطوانات الممغنطة أو المدمجة أو المتراصّة؛ ولا شكّ في أنّ العدد تضاعف اليوم حتى أصبح من المتعذّر على أيّ باحث أو دارس متابعة هذه الوفرة من المعلومات؛ بما فيها تلك التي تتعلّق باختصاصه أو تخصّصه العامّ، ناهيك عن التحكّم فيها والسيطرة عليها.
من هذا الجانب تتّضح أهميّة المكتبة المدرسيّة الحديثة، إذا نحن رُمنا حقّا أن نمهّد السبيل إلى «مدرسة الغد» أو استشراف مستقبل التعليم، وضمان إعداد أبنائنا للعيش في هذا العالم، وعيش حداثته التي لم نعد نملك خيارا في رفضها، أو الاعتراض عليها؛ بذرائع من ماض أو هويّة. والمكتبة المدرسيّة على ما يقرّره أهل الذكر، نظام فرعيّ للتعليم لا غنى عنه، ومركز إشعاع ثقافي؛ أثره أبقى، وقد يكون أكثر فائدة من تعليم المعلّم؛ بما توفّره من موادّ تعليميّة مستجدّة وتثقيفيّة متنوّعة مختلفة تُختار بعناية، وتنظّم تنظيما فنّيّا خاصّا؛ وتقدّم خدماتها إلى التلميذ والمعلّم بصورة كافية. وربّما كان المتعلّم أحوج إليها، فهي تدرّبه على استخدام المكتبة ومصادرها؛ بما يحقّق أكبر استفادة منها، فضلا عن تنمية قدراته في اكتساب مهارة التعليم الذاتي، وتنشئته التنشئة الاجتماعيّة المنشودة أو السليمة؛ إذ تقيّده بالأنظمة والتعليمات التي تنصّ عليها، وتهيئته للبحث العلمي مثل تعليمه فهرسة الكتب والدوريّات والمجلاّت. وهذا وغيره ممّا يعرفه القاصي والداني، يقتضي عناية جادّة بالتربية المكتبيّة في مؤسّساتنا التعليميّة؛ بدءا بتعويد التلميذ منذ المرحلة الابتدائيّة على دخول المكتبة المدرسيّة، وتشجيعه على ارتيادها في المراحل الدراسيّة اللاحقة.
الإبداع العربي عامّة في المشهد العالمي، يعاني من حيف لا يخفى على أحد؛ وما هو منقول منه إلى اللغات الأخرى المتداولة قليل جدّا.
على أنّ أكثر مكتباتنا المدرسيّة ـ وأنا أتحدّث عن تونس ـ مغلق أو مهمل، والقليل المفتوح منها يكاد لا يغني التلميذ في شيء، أو يزوّده بالمعرفة الأساسيّة؛ إمّا لندرة الإصدارات الحديثة، أو للتعامل غير اللائق مع الكتاب؛ وكثير من الكتب فيها أشبه بالأوراق النقديّة الوسخة من كثرة التداول والاستعمال؛ حتى أنّ القارئ لا يمسك بها «إلاّ وفي يده من نتنها عود» ـ مع اعتذاري لأبي الطيّب المتنبّي ـ أو لأنّ المشرفين عليها غير مؤهّلين تأهيلا مناسبا لإدارتها. لم أكد أعثر على رسالة سلمى، وأنا أعيد قراءتها، حتى انفتح في الذاكرة مسرب صغير إلى المكتبة المدرسيّة في مدرسة طارق بن زياد الابتدائيّة في القيروان في الخمسينيات من القرن الماضي؛ وهي أوّل ما قابلني تلميذا قارئا من مكتبات. لا أدري ما فعل الزمان بتلك المكتبة، ولكنّني أقطع عجِلا غير متريّث أنّ على صورتها؛ توقّفت لاحقا علاقتي بأنواع المكتبات الأخرى التي كنت أتردّد عليها وما أزال. أمّا مكتبة أكاديميّة نوبل فلها شأن مختلف، فقد راعنا فيها خلوّها من مصنّفات الأدب العربي قديمه وحديثه. وأذكر أنّ مدير المكتبة علّل ذلك بتقصير العرب في ترجمة آدابهم إلى اللغات العالميّة… وأقدّر أنّ في كلامه مقدارًا كبيرا من الصواب؛ فالإبداع العربي عامّة في المشهد العالمي، يعاني من حيف لا يخفى على أحد؛ وما هو منقول منه إلى اللغات الأخرى المتداولة قليل جدّا. وحضوره في المشهد العالمي على ما ننشد، لا يتسنّى إلاّ بالترجمة إلى اللغات الأخرى خاصّة وهي «رهان المنافسة العالميّة» وبعبارة أدقّ «الكونيّة» التي نشدّد دائما على أنّها قيمة إنسانيّة تتناسب وثراء الوجود الإنساني أو غناه، وهي لا تعني في أيّ حال العولمة من حيث هي استيطان مقنّع في أرض الآخر. على أنّ هناك أسبابا أخرى أو معوّقات أخرى تتعلّق بـ«المركزيّة الأوروبيّة» وصورة العربي والمسلم عامّة منذ الثمانينيات، وقد صار «الآخر بامتياز». وهو ما أعود إليه بشيء من التفصيل في مقال مقبل، تعقيبا على رسالة سلمى:
«عزيزي المنصف
يجيء ذكرك في كل مرة أتحدّث عن لحظة اكتشافنا خلوّ مكتبة أكاديميّة نوبل من إبداعنا! ألا تذكر تلك اللحظة التي فتح لنا فيها أمين المكتبة في الأكاديميّة، المستر أندريس ريبرغ (ما زلت أذكره وأذكر اسمه) درجا صغيرا وأرانا بناء على طلبنا منه، ما عندهم من أعمالنا الأدبيّة! أربعة كتب صغيـرة مترجمة! أيّ تراث هذا الذي يُختَزل بأربعة كتب صغيرة؟ لحظة ماج العالم بي وأدركت أنّ عليّ أن أودّع الحياة الشخصيّة الهادئة والشعر وحرّية التحرّك والسفر كما أريد، وأنصرف إلى عمل مكرّس أكبر منّي ومن عمري كان سيمسك بي ليل نهار. كلّما أتحدّث عن تلك اللحظة المصيريّة أتذكّرك وأذكرك. كنّا مسافرين من قرية سيغريد (سيغريد كاهل ابنة المستشرق السويدي نوبرغ) إلى مؤتمر لُند في الجنوب، وطلبنا أنّا في مرورنا في استوكهولم نزور أكاديميّة نوبل، وهذا ما حصل، وتغيّر به عالمي». (من رسالة بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2014)
٭ كاتب من تونس
رائع استاذ منصف،، خاصة عندما كنت تحاور حفيدتك .. لاحظت انسيابية في المقال لان الصدق في الطرح كان مفعما …تحياتي