من اين يأتي الهواء؟

حجم الخط
1

قبل ان أبدأ نشر مقالي الأسبوعي في ‘القدس العربي’، كنت اكتب زاوية في ‘الملحق’ بعنوان ‘على الأقل’. اخترت هذا العنوان لزاويتي الأسبوعية، كي اقول اننا نكتب دفاعاً عن الحد الأدنى من القيم الأخلاقية. وان المثقف، اذا اراد ان يتابع دوره، عليه ان يرتضي بالتهميش الذي فرضه عليه انهيار مقولة المثقف العضوي، بعد التفكك الذي اصاب مشروع التغيير في لبنان، وبعد انهيار المشروع الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير في اتفاقات اوسلو وما تلاها.
المثقف الهامشي او المهمش هو صاحب موقف اخلاقي اولا، ومواقفه نابعة من هنا، لذا فهو ليس اسير اي سلطة لأنه غير معني حتى بالتوجه اليها، او كما يقول استاذنا ادوارد سعيد: ‘قول الحقيقة للسلطة’، لأنه في العمق يحتقر السلطة ويعلم ان لا جدوى من مخاطبتها. فهو يخاطب القراء، من دون اي هدف سياسي مباشر، لأن الادوات السياسية النضالية فقدت من جهة، ولأنه لا يجد نفسه جزءا من خطاب المنظمات غير الحكومية، وهو خطاب ملتبس ومموّل في غالب الأحيان، من جهة ثانية. كما انه ليس مستعدا للتواطؤ مع النظام العربي الثقافي الجديد الذي يهيمن عليه النفط والغاز.
وجدت نفسي في ‘القدس العربي’، اكتب في زاوية لم اختر عنوانها، ويتناوب عليها مجموعة من الكتاب العرب، وهم في معظمهم من اصدقائي الذين اكن لهم الودّ، تحت عنوان ‘هواء طلق’. وللحقيقة فإن فكرة عنوان هذه الزاوية، بوصفها زاوية حرة وطليقة اعجبتني، لكنني لم احب صفة الطلق التي اعطيت للهواء. فعلاقة حرفي الطاء والقاف ثقيلة على السمع والنظر، ولا توحي بالطلاقة والانطلاق التي ارادها واضع عنوان هذه الزاوية. لكنني لم ابدِ اي اعتراض على العنوان، فأنا هنا مجرد ضيف يأتي مرة في الأسبوع، يقول كلمته كما يشاء ويمشي.
لم اكن على دراية بوضع الجريدة الداخلي، وهذا ما اردته، بعد تجاربي الصحافية السابقة، حيث كنت اجد نفسي في البداية على هامش الصحيفة حيث اكتب واعمل، ثم اجدني خارجها مطرودا او شبه مطرود، وهذا ما حصل في تجربتيّ الطويلتين في ‘السفير’ و’ملحق النهار’.
هنا كنت خارج اللعبة تماماً.
لم يكن هناك لعبة بالنسبة لي، كانت فوضوية ‘القدس العربي’، تعجبني، لأنها خلقت مساحات للاراء المتناقضة والمختلفة، وهذا كان سببا كافيا كي اكتب هنا.
وأحد اكبر اغراءات هذه الجريدة كان فقرها، الذي اعاد الى ذهني النادرة التي رويت على لسان الناقد المصري محمد مندور عن علاقته بمجلة ‘الآداب’، وصاحبها ومحررها الكاتب الكبير سهيل ادريس. كان ادريس حين يزور القاهرة يمر على كتّاب ‘الآداب’، ويدفع لهم مكافآتهم، مع كلمة شكر لطيفة يتوجها بعبارة: ‘هذا مبلغ رمزي’. الى ان فاض الكيل بمندور فسأله ممازحاً لماذا يصرّ على الأدب الرمزي، علما ان هناك مذاهب ادبية اخرى كالمذهب الواقعي على سبيل المثال!
اكتب ما اكتبه الآن، لا لأنني اريد توجيه تحية الى تجربة انطوت احدى مراحلها مع استقالة مؤسسها عبدالباري عطوان، او كي اكرر صداقتي للعديد من العاملين في الجريدة، بل لأنني كغيري من القراء لا اعرف ماذا جرى بالضبط، وكيف سترسو الحال هنا.
من الواضح ان هناك ازمة مالية، لكنني لا اعلم كيف تمّ حلها، وسط بحور من الشائعات التي ملأت الفضاء الافتراضي، عن مشترٍ ليس غامضاً، او عن مجموعة من المستثمرين، او لا ادري ماذا…
السؤال الملحّ بالنسبة لي هو سؤال الهامش الثقافي الذي نشعر انه يضيق في عالمنا العربي، بحيث صار من الممكن القول ان احتضار الصحافة اللبنانية الطويل كان المؤشر الأكثر بلاغة على محاولة قتل هذا الهامش. وقد ترافق هذا الاحتضار مع استتباع اكثرية المؤسسات الصحافية العربية، بحيث يصير الموقف النقدي ديكورا لسلطات مالية عملاقة، تعرف كيف تقصقص اجنحة هذا الديكور، وتجعله يقبل بالحدود الموضوعة للمسموح والممنوع.
هذا الهامش ليس مرهونا باستقبال المنابر القليلة المتبقية له فقط، بل مرهون اولا باصرار اصحابه عليه. فالكلمة الحرة تصل وحدها، وتحفر صخر الزمن من دون وسيط. والمثقف الهامشي، الذي يقف مدافعاً عن قيم الحرية والعدالة في فلسطين وسورية ومصر ولبنان، ليس وحيدا الا لأن وحدته الراهنة هي خياره، لأنه يحمي بها الثقافة من تلوث المال والسلطة، ويدافع عن الفكرة العربية الديموقراطية العلمانية في مواجهة الملح الذي يفترس ‘مدن الملح’.
اقرأوا عبد الرحمن منيف كي تلاحظوا العلاقة بين سجون ‘شرق المتوسط’ التي صنعها الديكتاتور وبين الملح الذي يجتاح ‘ارض السواد’. واقرأوا غسان كنفاني كي تشهدوا كيف يقاوم الرجال صحراء الشمس بشمس الحرية. واقرأوا تجربة المثقفين السوريين الشجعان التي كتب ياسين الحاج صالح شهادته عنها من الغوطة، كي تعيشوا تجربة صمود شعب مهدد بالموت، بعدما نجح التلوث النفطي في بناء مصيدة اضافية له هي الوجه الآخر للنظام الاستبدادي.
في هذا الزمن العربي الذي يعيش مخاض النهايات والبدايات الصعبة، يصبح حبر الحرية جزءا من الهواء الذي نتنفس، ويكون الهواء طليقا وطلقا حين لا ينحني الكاتب لانحناءة المرحلة امام السلطة والمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Isam kamel:

    Thank you for this illustrative article indeed

إشترك في قائمتنا البريدية