من بيروت إلى جزيرة ليسبوس اليونانية وما بينهما، لا يبدو شرق المتوسط بأرضه وسمائه ومياهه في هذا الوقت على ما يرام، ولم يعد بالتالي ولو إلى حين ركنا مفضلا في هذا العالم لمن أراد تمضية عطلة هادئة تحت شمس ساطعة بعيدا عن روتين الحياة وصخبها اليومي.
السحب السوداء التي ارتفعت في سماء المنطقة وفي وقت واحد تقريبا من مرفأ بيروت عبر حريقه الأخير ومن مخيم موريا اللاجئين في جزيرة ليسبوس اليونانية بفعل الحرائق المدمرة التي إلتهمت المخيم بأسره وأضافت إلى حياة ساكنيه تشردا فوق تشرد ومأساة جديدة فوق مآس كثيرة متراكمة، جاءت لترسم في سماء المنطقة ملامح أزمة واحدة يعيشها إنسان هذه البقعة المضطربة من العالم عنوانها الأساسي غياب العدل والمنطق عن كل شيء حتى بات الرحيل عن الوطن ( وهو حلم ليس بجديد على أي حال) ضرورة ملحة بل ومعبرا لا غنى عنه لمواصلة الحياة بشروطها وظروفها الإنسانية المناسبة لكل من ذاق ويلات الحروب والنزاعات ونتائجها الكارثية على الأرض ولكل من عانى من تردي الأوضاع المعيشية والخدمية وتوحش السلطة المصرة على البقاء في أماكنها وتعنتها وفشلها الذريع في هذا البلد أو ذاك.
الهجرة السرية
وإذا كان اللبنانيون وخاصة بعد الإنفجار الكبير والشهير الذي ضرب مرفأ عاصمتهم بيروت أوائل الشهر الماضي، قد بدأوا ومن مدينة طرابلس تحديدا يختبرون فعليا تجارب الهجرة السرية عبر البحر وصولا إلى جزيرة قبرص ومنها إلى اليونان بوابة العبور إلى أوروبا فإن آخرين من بلدان المنطقة وما هو أبعد منها (سوريين، عراقيين، فلسطينيين، إيرانيين، وافغان وغيرهم) قد مروا بهذه التجربة.
من أشهر مخيمات اللاجئين في الجزر اليونانية تلك مخيم « موريا « في جزيرة ليسبوس والذي هو الآن حديث الساعة بالنسبة إلى الأوروبيين وقد أقيم قبل سنوات لإستقبال وتجميع اللاجئين الواصلين عبر البحر من البر التركي القريب جدا من الجزيرة بطاقة إستيعابية لا تزيد عن ألفي شخص، قبل أن تتضخم أعداد اللاجئين فيه لتصل أخيرا إلى نحو 13 ألف لاجئ فيما تزعم الحكومة اليونانية أن أعدادهم أكبر من ذلك.
وصول أعداد اللاجئين في المخيم المذكور إلى هذا الرقم وعدم تمكنه من إستيعاب المزيد ما دفع إلى تشييد مخيم آخر في الجزيرة، يعكس في واقع الأمر سياسة أوروبية تجاه مسألة إستقبال لاجئين جدد تتراوح بين التشدد والرفض الصريح، وهي سياسة أتُخذت تحت وطأة تداعيات إستقبال أوروبا لعشرات الآلاف من اللاجئين في العام 2005 وما رافق ذلك وأعقبه من خلافات بين الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي حول توزيع اللاجئين بين الدول الأعضاء إضافة إلى إستغلال اليمين الأوروبي القومي المتطرف للقضية لتأليب الرأي العام المحلي ضد سياسات إستقبال اللاجئين من خارج دول القارة الأوروبية.
ومع ذلك تبقى قضية تدفق اللاجئين من مناطق الصراعات المسلحة والفقر خاصة تلك الممتدة من أفغانستان وصولا إلى سوريا وتموضعهم في تركيا أو اليونان متأهبين لدخول أوروبا، من القضايا الأبرز التي تشغل (في مناسبات معينة كما هو الآن) مساحات واسعة من النقاشات على المستوى الأوروبي العام وحتى داخل كل بلد عضو في الإتحاد الأوروبي على مستوى الأحزاب والجماعات السياسية والمنظمات الإنسانية.
هذا التعاطي السياسي والإعلامي الأوروبي مع قضية اللاجئين العالقين في اليونان يوحي أن قضيتهم هي قضية أوروبية لا يمكن تجاهلها وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة من خلال تتبع وسائل الإعلام داخل دول الإتحاد الأوروبي وخاصة في ألمانيا التي تبدو الأكثر إهتماما بهذه القضية وتداعياتها.
فوسائل الإعلام الألمانية العامة والخاصة وفي انعكاس لهذا الإهتمام المتجدد على وقع حريق مخيم «موريا» أوفدت أو دعمت وجودها في الجزر اليونانية خاصة جزيرة ليسبوس بطواقم من المراسلين الذين ينقلون وعبر تدخلات على الهواء مباشرة آخر تطورات الموقف على الأرض، وكذلك فعلت معظم منظمات الإغاثة الألمانية وصولا إلى الحكومة ذاتها برئاسة المستشارة أنغيلا ميركل التي إستنفرت أجهزتها المعنية للتعاطي مع الأزمة ونظمت سلسلة إجتماعات لحكام الولايات الألمانية لمناقشة القضية وتداعياتها إلى درجة يبدو معها الأمر وكأن ألمانيا الدولة الأقوى اقتصادا وحضورا داخل الإتحاد الأوروبي تخشى من إمتداد حريق مخيم «موريا» إليها على شكل موجة جديدة من اللاجئين لا تتوفر الآن في البلاد (برغم بعض التظاهرات الداعية لاستقبال لاجئي المخيم) حماسة كافية لإستقبالهم.
ولعله من المفيد في هذا السياق التذكير بتصريح لافت أدلى به عام 2018 أحد الموظفين الكبار في هيئة البيانات والإحصاء الألمانية وفيه قال إن الحكومة الألمانية التي راهنت على واحدة من فوائد إستيعاب واستقبال لاجئين جدد خاصة من فئة الشباب في دعم وتنشيط سوق العمل الألماني ورفده بكوادر مؤهلة في إختصاصات مطلوبة، فوجئت أنه ومن بين عشرات الآلاف من اللاجئين الذين وصلوا إلى البلاد بين عامي 2014 و 2016 لم يكن هناك سوى بضعة آلاف ممن ثبت إمكانية الإستفادة من مؤهلاتهم وخبراتهم المهنية كالأطباء والمهندسين والفنيين في إختصاصات مطلوبة، فيما كان على الحكومة الألمانية أن تخصص مبالغ طائلة للإنفاق على إعادة تأهيل وتدريب الآلاف من الشباب اللاجئين الآخرين للإستفادة منهم مستقبلا في سوق العمل إضافة إلى إنفاقها على غيرهم من اللاجئين من كبار السن ممن لا يُؤمل منهم أي مساهمة مؤثرة في دعم وتنشيط سوق العمل في البلاد.
وتصر برلين هذه المرة على ما يبدو على أن أي حل لقضية لاجئي جزيرة ليسبوس يتضمن نقلهم للإقامة في أوروبا لا بد أن ينص على توزيعهم في هذه الحالة على دول الإتحاد باعتبار قضيتهم هي قضية أوروبا ككل وليست قضية ألمانيا لوحدها.
الجدل الأوروبي
في المقابل تبدو المنظمات المجتمعية الألمانية المعنية بقضايا اللاجئين وأعمال الإغاثة غير متفائلة كثيرا إزاء إمكانية تبلور موقف أو حل أوروبي موحد لقضية لاجئي مخيم « موريا» وهو ما ظهر من بيان أصدرته مؤسسة مساعدة اللاجئين الألمانية «زيبروكه» والتي تتلقى تمويلا حكوميا، وفي البيان أعترفت المؤسسة أن لا حل أوروبيا في الأفق لهذه الأزمة وأن الدول الأعضاء في الإتحاد عليها أن تبادر إلى معالجة المشكلة بشكل منفرد.
في المحصلة يساهم الجدل الأوروبي داخل كل بلد بعينه أو ضمن الفضاء الأوروبي العام، بكل تفاصيله وتعقيداته وتشعباته والذي يُثار في كل مرة تندلع فيها أزمة لاجئين جديدة، في إضاعة فرصة فهم أسس وأسباب مشكلة اللاجئين إلى أوروبا على المواطن الأوروبي العادي الذي يجد نفسه عوضا عن ذلك منجذبا في كل مرة إلى أحد معسكرين يدعو أحدهما لإستقبال اللاجئين لأسباب إنسانية وآخر يتحفظ أو يرفض لأسباب عرقية وثقافية واقتصادية.
فعلى سبيل المثال دولة متوسطية وقريبة نسبيا من أوروبا مثل مصر لم يعرف الأوروبيون عن مواطنيها ركوب قوارب الهجرة بشكل جماعي، تبدو الآن مؤهلة أكثر من أي وقت مضى (بسبب قرارات وسياسات النظام المصري) مؤهلة لتتحول إلى دولة «مصدرة» للاجئين عبر القوارب وهو أمر لن يكون على أي حال موضع ترحيب أوروبي على الإطلاق.
وينطوي الموقف الأوروبي في هذه المسألة بالتحديد على تناقض مريع وصارخ، فمن جهة ولأسباب سياسية معروفة تؤيد أوروبا والغرب عموما أنظمة الحكم القائمة سواء في مصر أو بقية دول المنطقة وتدعم إستقرار هذه الأنظمة، لكنها تعارض من جهة إخرى ولأسباب معروفة أيضا إستقبال أمواج اللاجئين القادمين من الدول التي تحكمها هذه الأنظمة وهي موجات من الهجرة واللجوء ما كانت لتكون بهذا الحجم والشكل لولا سياسات الأنظمة الحاكمة وممارساتها.
أي أن أوروبا من هذا المنظور تساهم في خلق مشكلة اللاجئين إليها من جهة وترفض من جهة أخرى تحمل تبعات هذه المشكلة أو على الأقل الإقرار بأسسها ومسبباتها الحقيقية.
يفهم السياسيون وأصحاب الرأي في أوروبا جيدا هذا التناقض الذي يغيب عن وعي وإدراك كثير من مواطنيهم، لكنهم مع ذلك يتجاهلونه عن عمد في نقاشاتهم بشأن اللاجئين التي تكاد لا تنتهي على شاشات التلفزيون ومنصات الإعلام الأخرى.
ففي ظل «استراتيجية» دعم الأنظمة الحاكمة لدينا وتفضيلها عن أي نمط أو بديل آخر في الحكم لا يتبقى أمامهم إلا التجاهل!
كاتب فلسطيني