من أيام الشيوعية الآفلة (البقاء لله!) أحب أن أتذكر نصيحة للينين بقراءة كل شيء حتى مجلة «الشبكة» اللبنانية (هكذا قمت بتأويل النصيحة وقتها) وأحب أن أتذكر تذمّر تروتسكي في كتابه «الثورة والحياة اليومية»، من أن العامل الروسي يستطيع إنجاز ثورة، لكنه لا يعرف كيف ينظف حذاءه. من أيام النضال السرّي أتذكر نصيحة حركة «فدائيي الشعب» الإيرانيين بأن المعلومة التي لا تفيدك تضرّك.
وأحب، من أيام الصوفية، أن أتذكر شرح محيي الدين بن عربي الباذخ لفكرة وحدة الوجود.
الشغف بالقراءة سبق المعرفة بكل هؤلاء طبعا، بحيث صارت القراءة هي دليل وجودي حيّا.
ابتدأ كل ذلك بقراءة القرآن طبعاً مع الفاتحة والمعوذات وجزء عمّ، ومرّ بالمعلّقات الصعبة (أظرفها كانت لامرئ القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة) بالتزامن مع الأدب البوليسي للفتيان «المغامرون الخمسة»، ومجلة «تان تان» المقبلة من مصر، التي فتحت المخيّلة الطفولية بأوسع أبوابها، وبدرجة أقلّ مجلات الشخصيات الخارقة كسوبرمان والوطواط، وكان ممتعا، مع المشيب، مراقبة اصطدام نيزك الشغف بماركس ونيتشه وفرويد وفوكو، بأرض كتب البحث في تاريخ الانسانية الغامض ومستقبل البشرية المخيف، وصولا إلى قصص الزعماء العربية الكوميدية مختلطة بثرثرات عائلة كارديشيان وأخبار تايلور سويفت وليدي غاغا والشاب خالد… والملحمة الترامبية المستمرة بأشكال مختلفة في أنحاء العالم (آخرها انتصار بولسونارو في البرازيل).
كان الاستنتاج، حين نعود إلى فكرة تروتسكي، في بداية الصبا السياسي المغرور، أن التفاصيل الإنسانية الصغيرة مهمّة جدا وأن «الثورة» ليست غضبا و«حقدا طبقيا» وانقلابا فظيعا لجموع العمال والفلاحين الحاقدين على البورجوازيين وحسب (سيكون «دكتور جيفاغو» باسترناك و«أرخبيل الغولاغ» لسولجنتسين كشفين رائعين).
لم يمنع امتداد جناحي فلسفة ابن عربي الواسعين للوصل بين الكائن البشريّ والمقدس واتساع معانيها من تحوّل الصوفيين إلى هامش مضحك للطغاة.
أما ابتعاد «فدائيي الشعب» عن المعلومة المضرّة الذي قد يكون نفعهم أيام الشاه، فهو لم ينفع مع نظام ثورة آية الله الخميني، الذي تمكن من القضاء عليهم بشراسة، لكن فكرتهم علّمتني أن أركّز على المهم فقط، ولا أتدخّل بحيوات البشر ولا أجعل نفسي حسيبا عليهم، ولكنها لم تمنعني من معرفة أشياء خطيرة كان يمكن أن تودي بي إلى الموت.
من نافذة «فدائيي الشعب» نستطيع أن نطلّ على أجيال من المناضلين الماركسيين الذين أفنوا حيواتهم ليقطفها الخميني ونظامه، الذي حصّن سلطات الأمن والعسكر بالثيولوجيا والمقدس، وساهم بذلك في إدخال إيران والمنطقة العربية في ثقب أسود كبير. لكن يمكن أن نرى أيضاً ما تحبّ النخب «التقدمية ـ الليبرالية» العربية عموما أن تتجاهله، وهو الظلم الرهيب الذي وقع على أجيال من الإسلاميين العرب، الذي فتح الباب على صراع مستحكم بين العسكر والتيّارات الإسلامية المحافظة، أفضى إلى استفحال أثر غيلان النظم العربية المتوحشة (والركيكة بكل معنى الكلمة)، وتحوّلها إلى آلة موت هائلة تحصد الجميع، وإلى ظهور مرآتها السوداء والمماثلة في تطرّف غيلانها على شاكلة «القاعدة» و«داعش».
لقد تابع هذا الاستقطاب، من دون انقطاع، سيرورة الاستعصاء التاريخيّ السياسي والمعرفيّ لدى النخب السياسية والفكرية العربية التي لا يرى أغلبها بابا للتقدّم سوى الطغيان والاستبداد ومزيد من الدماء.
أما فلسفة ابن عربي فعلّمتني الكثير عن ارتباط الظواهر ببعضها، وأضفت عليها فكرة استبطان الشر للخير والعكس، كما رأيت في بعض أفكاره الفلسفية الأخرى، عن رحمة الله التي تسع كلّ شيء ومآل البشريّة بأجمعها إلى جنّة الخلد، طوبى أكثر عزاء وليست أقلّ واقعية من «ديكتاتورية البروليتاريا» أو «الإسلام هو الحل»!
ما بقي من طيفي لينين وتروتسكي هو انقلاب الحلم الطوباوي الكبير لوقف الظلم إلى ظلم أشد وطأة بكثير ووقوع عشرات الملايين من الضحايا بسببه ما أسهم، بدوره، في دورة التاريخ المعاكسة التي نراها الآن.
لم يمنع امتداد جناحي فلسفة ابن عربي الواسعين للوصل بين الكائن البشريّ والمقدس واتساع معانيها من تحوّل الصوفيين إلى هامش مضحك للطغاة. الطغيان، بهذا المعنى، قادر على تطويع أنبل الأفكار، والأفكار، بالمعنى نفسه، هي الضوء الوحيد الذي يخرجنا من نفق الطغيان.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»