في النصف الثاني من التسعينيات كنت أتولى رئاسة تحرير سلسلة «كتابات جديدة» في الهيئة المصرية العامة للكتاب. كان لنا مكتب هزيل لا يشجع على الحضور فكنت أترك الحضور للشاعر فتحي عبد الله مدير التحرير، أو الشاعر أيمن حمدي سكرتير التحرير، وعادة كنا نخرج إذا ذهبت إلى هناك ونجلس في مقهى صغير قريب في الطريق إلى حي السبتية، ويبدأ كلاهما يتحدث في الكتب التي وصلت إليه والتي علينا أن نقرأها. لم أكن أعطي أحدا آخر ليقرأ إلا نادرا. فعلتها مرتين منهما مرة لكاتب شهير أعطيته رواية لشاب مصري عن الهجرة والعمل في السعودية.. عادت الرواية ومعها تقرير يقول إنها رواية جيدة عن الهجرة في الخليج، والأمر مفوض للهيئة.
في ذلك الوقت كانت المعركة ضارية حول رواية عنوانها «الصقّار» كانت من أوائل ما نشرناه في السلسلة للكاتب سمير غريب علي، الذي يعيش في باريس الآن، عام 1996 وهي معركة قادها الكاتب فهمي هويدي وجلال أمين، ودخل معهم بعض المشايخ الذين كفرونا ورفعوا علينا ثلاث قضايا «حسبة».
أمرني سمير سرحان رئيس الهيئة، أن لا أتحدث عنها فسوف ينهيها بطريقته وأنهاها في ما بعد بطريقة لا يتصورها أحد وهي، أن طلب من كل من المشايخ الثلاثة كتابا ينشره في مكتبة الأسرة، ودفع له خمسة وعشرين ألف جنيه وتنازلوا عن القضايا. المهم تقرير هذا الكاتب عن رواية ذلك الشاب عن السعودية كان يمكن أن يمرّ عاديا بدون أن انتبه، لكن في الليل داهمني كابوس قوي مفزع، فصحوت من الكابوس استعيذ بالله. الكابوس كان يقول لي أن في الرواية كارثة، ورأيت نفسي واقفا في المحكمة عاريا. تذكرت الجملة الأخيرة من التقرير وكيف «أن الأمر مفوض للهيئة». هو هكذا يغسل يديه من الرواية المعجب بها. ذهبت إلى الهيئة العامة للكتاب في الثامنة صباحا، قبل أن تفتح أبوابها بساعة، وجلست على سلالمها حتى فتحوا الأبواب ودخلت إلى قسم المونتاج، وسألتهم عن الرواية، فقالوا سوف تنزل إلى المطبعة لتطبع اليوم، قلت لهم أن ينتظروا حتى أقرأها وأنا جالس بينهم. فتحت الصفحة الأولى. وجدت الصفحة الأولى فيها إهداء لي أنا صاحب رواية «البلدة الأخرى». قلت جميل. دخلت إلى الصفحة الثانية، أول صفحات الرواية بعد الإهداء فوجدت بعد السطر الثاني كلاما لا يمكن نشره أبدا، لا فنيا ولا اجتماعيا ولا أخلاقيا. يقول بعد وصوله إلى السعودية «أنا رايح أعيش بين الشعب السعودي» وكل الألفاظ السيئة يصف بها الشعب السعودي. وبعدها «أنا لازم … «وكلمة جارحة جدا تعني فعل الفحشاء بالشعب السعودي واحدا واحدا. لم أكمل الرواية ومنعت نزولها المطبعة وبعدها أخطرت صاحبها باعتذاري عن نشرها. طبعا لا يمكن الدفاع عن هذا النوع من الأدب بأي طريقة وبالذات فنية. الفن ليس كلاما مباشرا لكنه تصوير ومواقف ثم أنه يمكن لشخصية، أن تسب شخصية أخرى، لكنّ سبّ شعب أمر لا يمكن قبوله في الفن ولا في الفكر. ثم إن هذا الكاتب يهدي الرواية لي أنا صاحب رواية «البلدة الأخرى» التي تدور أحداثها في السعودية وهذا سيؤكد أمام أي محقق أني مساهم في هذا القذف الذي لا معنى له، والذي لا علاقة له بالفن أبدا.
كانت أزمة رواية الصقّار تملأ الصحف وقتها، كما بدأ عمال المطابع بالهيئة يقرأون الروايات ويكتبون التقارير من ورائنا للمسؤولين وللصحف، التي تبحث عن ضجيج ما أزعجني جدا.
كانت أزمة رواية الصقّار تملأ الصحف وقتها، كما بدأ عمال المطابع بالهيئة يقرأون الروايات ويكتبون التقارير من ورائنا للمسؤولين وللصحف، التي تبحث عن ضجيج ما أزعجني جدا. ونشرت جريدة «الأهالي» تحقيقا حول أزمة رواية «الصقّار» شارك فيه عدد من كتاب الستينيات، أدانوني كلهم بطريقة غير مباشرة بقولهم إن الفن يراعي المجتمع أو الظروف باستثناء صنع الله إبراهيم. كنت أعرف الشرخ الذي بيني وبينهم بسبب رواياتي وكيف ازداد بعد صدور «البلدة الأخرى» ثم «لا أحد ينام في الإسكندرية» التي حصدت بهما شهرة كبيرة، ونشر كاتب كبير منهم مقالا في المصور يشيد فيه بفهمي هويدي كمفكر كبير. لم أتضايق لكن توقيت نشر المقال كان مثيرا. كلهم بعد ذلك في أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» كانوا مع إبراهيم أصلان ابن جيلهم طبعا، وكنت أنا أيضا معه ليس لمسألة المجايلة من عدمها، لكن تأييدا لحرية التعبير، بل وفي أزمة الروايات الثلاث كنت مع حرية التعبير أيضا وضد مصادرتها، خاصة أن ما فيها ليس شتائم ولا قذفا، لكنه مواقف فنية واستقلت من السلسلة التي أديرها، والتي لا علاقة لها بالأزمة تضامنا مع محمد البساطي، الذي يدير السلسلة التي نشرت الروايات في الثقافة الجماهيرية. المهم نعود إلى موضوعنا. وقتها كنت عائدا من الإسكندرية في القطار المكيف، فقابلت الصحافي ماهر حسن في القطار، فقال لي معلومة غريبة جدا وهو أنه غداً ستجتمع لجنة علماء الإسلام الأزهرية وتقوم بتكفير حسن حنفي ظهرا، ثم تجتمع مساء لتكفيري وسمير سرحان وسمير غريب علي.
في اليوم التالي ذهبت إلى جريدة «الدستور» الوحيدة التي كانت تدافع عنا في مكانها القديم قرب ضريح سعد زغلول لأخبر إبراهيم عيسى رئيس التحرير، وأعرف منهم حقيقة الخبر. قابلت هناك صدفة جلال أمين، فسألته لماذا يدخل المعركة مع فهمي هويدي. قلت له إن كل جملة استنكرها فهمي هويدي أو تستنكرها أنت، وراءها جملة مضادة لها فلماذا هذا الانتقاء؟ فوجئت به يسألني وما علاقتك بالموضوع. قلت له أنا رئيس التحرير فقال لي لم أنتبه إلى ذلك. صرت مندهشا فاسمي على الصفحة الأولى للرواية. وبينما أقف معه متصنعا الضحك وأقول له رأيك في المويلحي وطريقة كتابته كطريقة جميلة ومفيدة لا يلزم الأجيال الجديدة. بينما أضحك وأتسامر معه حول الأدب، متجاهلا أنه لم يعرف أني رئيس التحرير. جاء خبر تكفير حسن حنفي تماما كما قال لي ماهر حسن. قلت له بالمناسبة سيتم تكفيري أنا أيضا وسمير سرحان وسمير غريب علي في جلسة المساء من هذه اللجنة، فقال لي إنه لن يكتب في هذا الموضوع بعد اليوم، وحدث أنه لم يكتب فيه، لكن أنقذنا الله وقامت الدولة بحل الجمعية بعد ساعة من تكفيرها لحسن حنفي. جاء الخبر إلى جريدة «الدستور» وأنا معهم وطبعا لم يتم تكفيرنا. كنت أعطيت الرواية لبلال فضل وفي العدد التالي لجريدة «الدستور» أشار بلال فضل إليّ أن المعركة ليست موضوعية حقا، ولاشيء في الرواية يؤكد ما قيل من اتهامات.
تلف الأيام وأجد نفسي في حلقة مع المذيعة نجوي إبراهيم ومعي الكاتبة هالة البدري وشيخ من تلك الجمعية، وكنا نناقش في البرنامج مسألة «البوي فريند» والزواج في أوروبا وأمريكا، وأهم ما جرى أني لاحظت أن مع ذلك الشيخ مسدسا صغيرا يخرجه وقت الراحة يمسحه ويضعه في جيبه. كنت مندهشا بدخوله به إلى مدينة الإعلام وسألته لماذا تحمل المسدس معك هنا؟ قالي لا أحد يضمن الأحوال. قد يسيطر المسيحيون على الحكم ونحن هنا. هكذا قال لي والله وأدركت إلي أي مستنقع وصلنا.
٭ روائي من مصر
عم مساء يا صديقي- مقالك له دلالات كثيرة.في مقدمتها،فساد الحظيرة،أي وزارة الثقافة، فهي ليست جادة في مهمتها الثقافية. هي حريصةعلى الصورة أي اللقطة. وإثبات أن” التنوير” يعم البرية! النشر فاشل،والكتّاب فاشلون،والمسئولون لا يعملون، والمحكمون فاسدون، وكبير الهيئة يدفع من أموال الشعب المسكين،ليتفادى المسئولية القانونية، والشوشرة، والكتاب لا يملكون أوليات الكتابة وبعضهم لا خلاق له. في الوقتالذييتمفيهإقصاء الآخر المسلم الذي لا يطبل للحظيرة. ومنالمؤسف أنالحظيرة لا تتعامل إلا مع مشائخ السلطة وأشباههم!
لا عليك يا صديقي- أحك مزيدا من أحوال الفاشلين لعل الله يهيئ لهذا البلد التعيس من يأخذ بيده ويريحه من حكم العساكر والطبالين!