ماريا صغيرتي ..
كان سفرا جيدا بدون حوادث تذكر. انطلقنا في الساعة السابع وعشرين دقيقة صباحا، استمرت رحلتنا غاية الساعة التاسعة صباحا، ثم قطعنا سبعة كيلومترات على الأقدام كي نعبر محطة للسكك الحديدية تعرضت سابقا للقصف. ابتداء من الساعة الحادية عشرة حتى الظهيرة امتطينا قطارا، بيد أننا انتظرنا ساعتين في مدينة ”مو” كي نتمكن فعلا من العثور ثانية على قطار آخر. ثم تغيير جديد بعد مرور خمس وأربعين دقيقة، إلى أن وصلنا في حدود الساعة الخامسة مساء. كنت متعبا مثل كلب أسود، وسعيدا في الوقت ذاته، لأنني انتهيت أخيرا من كل ذلك. وضعوا رهن إشارتي منزلا قُصف جانب منه سنة 1940، غير أن جزءه الباقي يظل رغم ذلك ملائما للسكن، مع أن الغبار يغمره، لذلك قضيت ثماني وأربعين ساعة متوخيا جعل المكان مناسبا بمساعدة امرأة شجاعة تنحدر من المنطقة.
البلدة عبارة عن واد صغير تكتسي منحدريه أراض مزروعة وأشجار متوسطة. الجو منعش، وخرير المياه وروائح الأعشاب، والأبقار، وبعض الأطفال الصغار الجميلين ثم شدو الطيور. حينما نتوغل قليلا، نعاين هضابا أخرى أكثر بروزا نتنفس معها على نحو أفضل. بخصوص مشهد القرية، نلاحظ وجود منازل هنا وهناك وكذا أشخاص شجعان. أما عن المنزل الذي أقطنه، فيتوارى وسط حديقة فسيحة جدا زاخرة بالأشجار وكذا آخر عينات أزهار نهاية الموسم ــ لم تعد حمراء ــ منزل يتموضع بين طيات ظل كنيسة قديمة. أما الجزء الأعلى من الحديقة، فهو عبارة عن مرج مشمس، وتحديدا تحت أقواس دعامات الكنيسة. هكذا بوسعنا الاستفادة من حمامات شمس. أنا بصدد تنظيم غرفة ومكتب في الطابق الأول. حين انتهائي من الأمر، سأحيطكِ علما بمختلف التفاصيل.
لا أتحسر على أي شيء والأيام التي تأتى لي أن أعيشها اعتبرتُها كافية قصد تبرير حياة ما.
أعتقد بوسع ميشيل غاليمار على الأقل الإقامة معي. أما بيير وجانين غاليمار فسينتقلان بالتأكيد إلى الاستقرار في مكان آخر. أنتظر بفارغ الصبر قدومهما حتى نناقش الأمر، لاسيما أنني أصبو من خلالهما إلى معرفة جديد أخباركِ.
أكتب إليكِ جل هذه المعطيات بصدق قدر ما يمكنني السعي لأنني أعتقد بأنكِ ترغبين أولا في معلومات دقيقة. لكن فكري مختلف فعلا: فمنذ الخميس ليلا أحيا بجواركِ. يظهر لي أن البعد عنكِ يؤلمني واستعصى عليّ تحمل هذا الانفصال، في خضم تقلبات عديدة، تحت سماء زاخرة جدا بالمخاطر. أتطلع إلى مجيئكِ، إذا استطعتِ التنقل بواسطة سيارة، فلا تترددي، سيكون مسارا أكثر يسرا. وإلا أُجبرتِ على قطع أشواط السفر الطويل نفسها التي اختبرتُها. أستحضر بهذا الخصوص أيضا الدراجة الهوائية، لحظتها بوسعي الذهاب لملاقاتِكِ. لا تنسي عزيزتي وعدَكِ، وهو مصدر حياتي آنيا. أظن يمكنني العثور على السكينة بين طيات هذا المكان. لقد استطعتُ إعادة رسم صمت داخلي افتقدتُهُ منذ أمد بعيد جدا، بفضل هذه الأشجار والريح والنهر، لكنه تطلع غير ممكن إذا أرغمتُ على مكابدة غيابكِ والركض مقتفيا أثر صورتكِ وذكراها. لا أنوي قط تمثل دور اليائس أو الانقياد وراء ذلك. ابتداء من يوم الاثنين، سأشرع في العمل، منكبا، هذه مسألة مؤكدة. لكن أريد منكِ مساعدتي بأن تأتي، نعم أساسا وصولكِ إلى هنا! أنت وأنا التقينا، ثم عشق أحدنا الثاني غاية اليوم بناء على الولع، والتلهف أو المجازفة. لا أتحسر على أي شيء والأيام التي تأتى لي أن أعيشها اعتبرتُها كافية قصد تبرير حياة ما. بيد أنه تكمن طريقة ثانية كي يحب أحدنا الثاني، اكتمال أكثر سرية وتناغما، وليس أقل جمالا مع إدراكي لقدرتنا على تحقيق ذلك، بحيث سنعثر هنا على الزمان. تذكري هذا، ماريا صغيرتي، وتصرفي على نحو أننا نمتلك دائما حظا لحبنا.
خلال ساعات معينة ستؤدين دورا مسرحيا. سيظل فكري برفقتكِ، اليوم وغدا. أترقب تلك اللحظة حينما تجلسين وأنت تقولين هذا رائع، أتشوق كذلك إلى الفعل الثالث المصحوب بتلك الصرخة التي أحببتها كثيرا.
آه! عزيزتي، كم يصير الوضع قاسيا أن تجدَ نفسكَ بعيدا عن الذي تحبه. أفتقد مُحيّاك، أكثر شيء أعشقه على امتداد هذا العالم. أكتبي لي دوما، لا تتركيني وحيدا. سأنتظركِ مهما تطلب الأمر من أمد، أشعر بصبر لانهائي صوب كل ما يتعلق بكِ. لكن خلال الآن ذاته، يسري في دمي شغف يؤلمني، ثم رغبة كي أدمر وألتهم كل شيء، إنه عشقي لكِ. إلى اللقاء، يا إكليلي الصغير. استمري على مقربة مني بالفكر، ثم تعالي على جناح السرعة، أرجوكِ.
أقبِّلكِ بكل ما أملكه من شغف. بوسعكِ مراسلتي كما اتفقنا، على عنوان السيدة باران في منطقة «فيرديلو السين- و- مارن».
السبت 1 يونيو/حزيران 1944، الساعة الثانية ظهرا.