من زمن سيدي وستي (2)

حجم الخط
0

من بطن الغول التي سميت بذلك لقدر ما ابتعلت من البشر التائهين في الصحراء ومن صحارٍ كثيرة لونته شمسها بسمرة حارقة ولفه ترابها من رأسه الى أخمص قدميه وعالج عقاربها وحيّاتها واكتوى بلدغها وسمها، ولكن نفسه ظلت رقراقة عند الزوجة والعائلة وكان كلما كتب لهم من الغربة يتمثلهم فردا فردا وكأنهم في أحضانه.
7-9-1971بالحبيبة الغالية، رفيقة الدرب، وصديقة العمر العزيزة، يا ملهمتي في الشعر والنثر، قبلاتي إليك، وسلاماتي الحانية إليك
اولادي الأحباء عقيل وطارق وبشير
الحبيبات العزيزات وفاء ورفقة وفادية وفاتن وهالة وهيام
كل عام و أنتم بخير بمناسبة حلول شهر رمضان، وأرجو يا أم عقيل أن تكوني قد استعددت لرمضان من أجل الشباب والصبايا بالتجهيزات للبيت والصلاة وقراءة القرآن والدعاء لنا جميعا وكان الله في عونك، وكتب الله لك ثواب تعبك وتقبل منا أحسن القبول. واني أتخيلك في كامل نشاطك ساعات ما قبل الإفطار وأنت تحضرين الطعام بنفس طابت وعذُبت في خدمتها لأبنائها وبيتها، فهنيئا لك البيت وأبنائه وبناته ورجله، وأرجو الله أن يكتب لي مشاركتكم الجزء الأخير من رمضانب.
ورسائل ورسائل لم ينقطع عنها جدي طوال فترة غربته بذات النفس المحب المشفق مهما كانت أحواله، وبذات الحب والشغف والعهد والوعد لزوجته بعد خمسة وعشرين عاما من الزواج وتسعة أولاد وبنات.
بينهم وعيت على مودتهم في السبعينات من عمرهما، أي في خريف العمر، ولكني رأيتهما كشقيقي الروح، ولما أُقعد جدي وكانت جدتي تتأخر في شراء الأغراض كان يغضب و يضع يده على خده حتى ترجع فيتألق وجهه وتدب فيه الحياة من جديد، رغم السن والمرض، وتبرق عينيه، كما لو كانت تجري بدموعها، وظلت هي تعنى به كما لو كان شابا قويا، فظلت تلبسه أجمل الثياب وتعطره بأرقى العطور، ومات بعد أن صلى وأطعمته طعام الغداء فكان آخر عهده بالدنيا لقمة من يدها..
أخذها ابنة نائب ودارهم ديوان وكرمها كما كانت في دار أهلها وحفظت هي عهده وغيبته وغربته في نفسها وبيتها و أولادها، كان مستقيما وصارما في عمله كالألف، وكان نهرا عذبا سحا غدقا على أهله. هي أشياء قد يستصغرها جيلنا فماذا تعني الرسائل ووسائل التواصل الآن، لم تعد تترك مجالا للناس أن يشتاقوا لبعضهم البعض والحضور من أصقاع الأرض يكون بالصوت والصورة وحتى التعارف والزواج والعقود أصبح الكترونيا! ولكنه زمن الحركة بغير بركة، وزمن المظاهر بلا مخابر، وزمن الرجولة بلا رجال، والعقود بلا ذمم!
كان الرجال قديما أصحاب نخوة وذمة وأمانة، وكان يربطون من لسانهم وكانت كلمتهم ميثاقا، كانوا لا يتقنون الخداع ولا التلون، كانوا يطلبون الحلال والسترة، وكانت العروس نقاوة الوالدة وكان الجمال جزءا والأسرة والأصل جزءا والأخلاق جزءا، وكلها بذات الأهمية، كانوا يمضون حياتهم وتنحني ظهورهم وتذوب صحتهم في خدمة أسرهم من دون منة، أما رجال اليوم فكثير منهم يعاني بطالة الحال والأعمال وقلة البركة، فلا عمل ولا زواج ولا شهادة تنفع ولا غربة تغني، وإذا تزوجوا بعد طول عزوبية ينفرط عقدهم من أول سنة زواج ونسب الطلاق في السنة الأولى بمئات الألوف، وما عاد الدين ضمانة لأي شيء اذا كان بلا أخلاق، والأخلاق بوصفها المائع في أيامنا لا تنفع من غير دين ووعي، والزواج أصبح بالحظ حتى مع المتدينين، ‘يا تصيب يا تخيبب! ومعظهم يلعب بالزواج وبمواثيق الله الغليظة وببنات الناس، كما يلعب الطفل بكرة القدم!
وفي لقاء مع أم محمد الرنتيسي وصفت لنا أسد فلسطين زوجا وأبا فعلمت أنه رحمه الله كان أيضا من رجال ذلك الزمن، زمن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، و زمن أجدادنا وأبائنا، و هذا ‘الموديل’ لغلائه و علو همته و ندرة جبلته و طيب معدنه لا يعمر طويلا للأسف .
نعم كان في الزمان القديم فرسان وكان منهم أبو عثمان النيسابوري الذي سئل: ما أرجى عملك عندك، فقال: كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبى، فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان، إني قد هويتك، وأنا أسألك بالله أن تتزوجني، فأحضرت أباها،و كان فقيرا، فزوجني وفرح بذلك، فلما دخلت إلي رأيتها عوراء عرجاء مشوهة، وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج، فأقعد حفظا لقلبها، ولا أظهر لها من البغض شيئا، وكأني على جمر الغضا، فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي لقلبها.
كان في الزمان القديم فرسان وكان في زمان أجدادنا وأبائنا فرسان و عسى الله أن يزيد فرساننا ويبارك فيهم على قلتهم، وعسى أن يعود ذلك الزمان من المثالية و الكمال.
د.ديمة طارق طهبوب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية