الأرجح، والمنطقيّ افتراضاً، أنّ قسطاً غير قليل من الاهتمام برحيل الروائي التشيكي ميلان كونديرا (1929-2023) يرتدّ في أصوله إلى فورة الحماس التي اكتنفت انشقاقه ومغادرة تشيكوسلوفاكيا إلى فرنسا سنة 1975؛ والأدوار التي لعبتها سلطات الحزب الشيوعي التشيكي في تعظيم ذلك الانشقاق بقرارات (حمقاء بلهاء، كالعادة) تضمنت سحب الجنسية والطرد من الحزب. مرجّح، غالباً، أنّ مناخات الالتفاف حول كونديرا الشخص، ثمّ حول رواياته وتنظيراته النقدية، سمحت بمقدار لم يكن بدوره قليلاً لجهة غضّ النظر عن المعلومات التي كُشف النقاب عنها، خريف 2008، حول وشاية كونديرا، سنة 1950، بالمعارض المنشق ميروسلاف دفوراشيك، وكتابة تقرير إلى الشرطة السرية التشيكية يحدد مكان إقامة الأخير، مما أسفر عن اعتقاله والحكم عليه بالسجن 22 سنة مع الأشغال الشاقة؛ الأمر الذي سوف ينفيه كونديرا على نحو قاطع، بالطبع.
للمنشقين عن «المعسكر الاشتراكي»، كما سارت التسمية خلال عقود الحرب الباردة، أقدار متنوعة من حيث المسارات والمواقف التي تخصّ المنشقّ نفسه، لكنها في العموم متطابقة بدرجات مدهشة من حيث الاستقبال الغربي، في أوروبا والولايات المتحدة خصوصاً، وليس على صعيد المؤسسات والمعاهد الثقافية والإعلامية وحدها بل أساساً، وربما جوهرياً أيضاً، على صعيد أجهزة الاستخبارات؛ بالنظر إلى الأدوار الخاصة التي ربطتها تلك الأجهزة بالثقافة. ولعلّ كتاب فرنسيس ستونر سوندرز «من الذي دفع للزمّار: المخابرات المركزية والحرب الباردة الثقافية»، الذي صدر بالإنكليزية سنة 1999، ونقله طلعت الشايب إلى العربية، وصدر في القاهرة سنة 2003؛ هو المرجع الأبرز، والأدسم بالمعلومات والمعطيات الوثائق؛ حتى الساعة، أي حتى إشعار آخر يمكن أن يميط اللثام عن المزيد (خاصة في ملفي الاستخبارات الغربية والثقافة العربية، خمسينيات وستينيات القرن المنصرم).
على سبيل الأمثلة، عالية الدلالة مع ذلك، ثمة الكثير من الفوارق بين «الدون الهادئ»، رواية ميخائيل شولوخوف التي كانت العمل الأبرز خلف منحه جائزة نوبل للأدب سنة 1965؛ وبين «دكتور جيفاغو»، رواية بوريس باسترناك التي جلبت له وللاتحاد السوفييتي أوّل نوبل سنة 1958؛ سواء لجهة المناخات الملحمية الشاسعة والبديعة في الأولى، أو الاختراقات الشعورية والشاعرية البديعة في الثانية. أو، استطراداً، من حيث امتناع الأخير عن استلام الجائزة (رفضاً للتسييس، وربما الخشية من اضطهاد الحزب)؛ وقبول الأوّل لها بوصفها التكريم العالمي الأوّل لتيار الواقعية الاشتراكية في الآداب والفنون، طبقاً لتكريسه الرسمي على يد أمثال مكسيم غوركي وأندريه جدانوف سواء بسواء.
كلاهما، باسترناك وشولوخوف، على مسافة نأي ملموسة وجلية، سياسياً وأخلاقياً، عن ألكسندر إيساييفتش سولجنتسين (1918-2008)، الروائي الروسي (السوفييتي، سابقاً)، حامل نوبل الآداب أيضاً لعام 1970، والمنشقّ بعد 4 سنوات؛ الذي تربّع ذات يوم على عرش «الرمز الأعظم» للنضال من أجل حرية التعبير في الاتحاد السوفييتي وسائر بلدان المعسكر الاشتراكي خاصة، وعلى امتداد العوالم الثانية والثالثة أو كلّ ما هو خارج جغرافية «العالم الحرّ» بصفة عامّة مطلقة. لافت، مع ذلك، أنّ روايته «يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش»، التي جذبت انتباه الأكاديمية السويدية، كانت قد صدرت بالروسية أوّلاً، في موسكو، وبقرار من نيكيتا خروتشوف شخصياً؛ ولم يكن الرجل ممنوعاً من الكتابة والنشر، رغم أنه سجين سابق في «أرخبيل الغولاغ» ذاته؛ الذي سيصوّره في عمل لاحق حمل الاسم ذاته.
الفارق الذي توجّب أن يميّز سولجنتسين عن مواطنَيْه باسترناك وشولوخوف لم يكن الانشقاق وحده، ولا هوية الجهة التي واصلت الدفع للزمّار، بل خصائص المزمار الذي استخدمه هذا أو ذاك من أدباء الانشقاق، من جهة أولى تخصّ حقوق التاريخ وصدقية الوقائع؛ وقبلها، أو بالتوازي معها كما قد تساجل تيارات النقد الأدبي السوسيو- سياسية، سمات معزوفات المزمار ذاتها، من جهة ثانية على صلة وثيقة بالسوية الفنية والإبداعية. ولقد تعيّن على رواية سولجنتسين أن تهزل تباعاً، بل قد يصحّ القول إنها تقزّمت باضطراد، بعد عودته المشهودة إلى روسيا سنة 1994، واتخاذه سلسلة مواقف سياسية قوموية، لا تختلف كثيراً عن مفردات الخطاب الذي يردده فلاديمير بوتين اليوم في تبرير غزو أوكرانيا: الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي تسعى إلى تطويق روسيا وحرمانها من سيادتها، ليس عن طريق الحشد العسكري جنوب البلاد وشرق أوروبا فحسب، بل كذلك بمساندة «الثورات الملوّنة»، في إشارة إلى أوكرانيا البرتقالية وجورجيا الوردية؛ ولم يغفل سولجنتسين التشديد على امتداح بوتين، لأنه يجهد لإحياء «روح روسيا».
وإذْ تمرّ هذه الأيام الذكرى الـ50 لصدور «أرخبيل الغولاغ»، المناسبة التي حرّضت هذه السطور، فإنها تخلو أو تكاد من الضجيج والعجيج الذي اقترن بترجمتها إلى الإنكليزية والفرنسية؛ بل إنّ بعض الذين استذكروا المناسبة من المطبّلين السابقين جنحوا لى صيغة أقرب إلى التباكي والرثاء منها إلى الاحتفاء والتمجيد. صحيح أنّ للنسيان قوانينه المتجبرة، التي قد تكون تكفلت بوضع سولجنتسين على أحد رفوف مهملات التاريخ، إلا أنّ الصحيح المقابل هو أنّ معزوفات المزمار ذاتها بهتت أو انحسرت أو تلاشت؛ وتلك سنّة الحياة، أو بعض المصائر التي يحفظها التاريخ لهذا الطراز تحديداً، من الأدب الزمّار.