نشرت صحيفة «هآرتس» العبرية، يوم الاثنين المنصرم، نبأ أفاد بأن شرطيا اسرائيليا كان يستقل دورية رسمية مع زميل له، صرخ بمكبر الصوت، حين مرّ بجانب من كانوا يتظاهرون ضد بنيامين نتنياهو، وأعلن بما يشبه التهديد والتحذير: «فقط بيبي». كُشف عن هذه الحادثة بعد أن تم تسجيلها وتصوير سيارة الدورية من قبل أحد المشاركين في المظاهرة، التي دعت إليها منظمة «الأعلام السوداء» وأقيمت في منطقة «كفار فيتكين».
قد تبدو هذه الحادثة للبعض مجرد مزحة عابرة هامشية؛ بينما هي، برأيي، عكس ذلك؛ فسياقها يجب أن يُموضع ويُقرأ على خلفية المشاهد التي تصدّرت نشرات الفضائيات، واستعرضت أخبار اعتداءات قوات الشرطة الإسرائيلية على المتظاهرين المتدينين اليهود، حيث أكّدت مناظر عنف عناصر الشرطة المنفلتين، مرة أخرى، أننا ازاء ظاهرة خطيرة تستوجب التوقف عندها، لأنها تعكس حقيقة وطبيعة النظام السياسي الذي سيحكم الدولة في السنوات المقبلة.
معظم المواطنين العرب لا يعيرون هذه الأخبار «الصغيرة» والمشاهد المستفزة أي اهتمام، كما لم يعيروا، اعتداء هذه الشرطة نفسها، قبل شهر، على المتظاهرين اليهود أمام بيت رئيس الوزراء نتنياهو في شارع بلفور، وكان بينهم العديد من الشخصيات المعروفة بتاريخها الصهيوني البارز مثل، رئيس جهاز الشاباك السابق كرمي جيلون الذي جرح هو وغيره في تلك المظاهرة. لا أعرف متى ستستوعب نخبنا الواعية وقياديونا، أننا نقف على «عتبة جهنم»؛ ولا نملك ذلك الترف، مهما كانت مسبباته، لإغفال ما يحصل، أو لتأجيل مواجهته، أو للشماتة بسببه؛ كما تشعر بعض القطاعات الواسعة بيننا، ولسان حالهم يلهج ويقول: إنهم يأكلون بعضهم، فدعوهم يسيرون نحو حتفهم بأرجلهم. هنالك هوة كبيرة بين ما يجري من تفاعلات سياسية داخل المجتمع اليهودي، وما يوازيها من ركود مقلق يتحكم في فضاءات مجتمعاتنا العربية السياسية وانهيارات في السلوكيات الاجتماعية؛ فبين الأكثرية اليهودية تتنامى وتكتمل مظاهر الفاشية، وفي مواجهتها تتسع حلقات المعارضين، الذين بدأوا يستشعرون بحتمية ذلك التطور الذي سيفضي إلى تشكل نظام ديكتاتوري شبيه بجميع الأنظمة الفاشية السوداء التي عرفها التاريخ، لاسيما في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين.
مناظر عنف عناصر الشرطة الإسرائيلية المنفلتين، تعكس حقيقة وطبيعة النظام السياسي الذي سيحكم الدولة في السنوات المقبلة
أما في المقابل، وعلى الرغم من اقتناع معظم طلائعي النخب العربية، المزودة بأدوات علمية، والمنكشفة على تجارب الشعوب الأخرى، بأن ممارسات النظام الفاشي الجديد، على الصعيدين العام والخاص بنا، ستختلف جوهريا، عمّا عاشه المجتمع الإسرائيلي وعشناه نحن في العقود السبعة الماضية، إلا أن هذه النخب وعلى الرغم من ذلك لم تبادر إلى أي محاولة لمنع وقوع الأسوأ المتوقع، أو للبحث عن وسائل لمقاومته.
سيدّعي الكثيرون، كما أتوقع، أن لا جديد في المشهد الإسرائيلي؛ فهذه الشرطة هي شرطتها القديمة الجديدة، ولطالما شاهدنا عصيها وهي تهوي على رؤوس وأجساد المتظاهرين العرب، وبنادقها تطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع، أو حتى الرصاص المطاطي والحي، كما جرى في أحداث يوم الأرض الخالد، أو خلال احتجاجات أكتوبر عام 2000، وفي غيرها من الانفلاتات الشرطية العنصرية القمعية، التي خلّفت وراءها، بين المواطنين العرب، الضحايا والمصابين والأحزان.
لكنني وإن كنت أوافق على صحة هذا الادعاء بمنظوره التاريخي، أؤكد هنا، مرة أخرى، على أن ممارسات عناصر الشرطة الأخيرة، ستبقى علامات فارقة وتاريخية لأنها حملت دلالات خطيرة على طبيعة التحولات التي مرّ بها نظام الحكم في إسرائيل، وبراهين على انتقاله من نظام عنصري يقمع ويضطهد مواطني الدولة العرب، إلى نظام مستبد لا ديمقراطي وفاشي، لا يقبل بأي نوع من المعارضة السياسية حتى لو كانت آتية من داخل المجتمع اليهودي، وتمارسها قطاعات يهودية متدينة – يدعم كبارها عمليا حكومة نتنياهو – أو أجسام وجهات وشخصيات صهيونية بارزة، وصاحبة تاريخ مشهود لها بتضحياتها من أجل بناء «إسرائيل القوية».
من الضروري أن نلاحظ الازدياد في أعداد المعارضين اليهود، وتنوع خلفيات شرائحهم الاجتماعية ومؤهلاتهم العلمية وانتماءاتهم الأيديولوجية، كما كانت معلنة ومعروفة. ومن المفيد أن نسمع أصواتهم وهم يحاولون اختراق جدران السلطة الفولاذية؛ وان نلحظ ما بدأت ترفعه هذه المجموعات من شعارات مناهضة لنظام الحكم، وأي لغة سياسية جديدة اختاروها وجندوها في سبيل ذلك، رغم صهيونيتهم.
سيلجأ الكثيرون من المعلقين والناشطين السياسيين والاجتماعيين العرب، إلى تقزيم تلك الظواهر، من خلال تنقيبهم عن مواضي أولئك الأشخاص، وتسجيل ما اقترفت أيمانهم بحق الفلسطينيين، وبحقنا نحن المواطنين العرب، وهذا أمر طبيعي ومنتظر، ولئن ستبقى تلك التفاصيل والممارسات وصمات عار في سيَرهم الشخصية، فلا يصح سياسيا ومن غير المعقول أن نرفض التوقف عند «توباتهم» كما يصرون على إعلانها والقتال من أجلها، وإصرارهم على إجهاض الزحف الفاشي، ومنع انتصاره النهائي، حتى لو جاءت «صحوتهم» مجزوءة، أو متأخرة، أو ليست وفق طقوسنا؛ ولنا في تجربة الجنرال ماتي بيلد مع «القائمة التقدمية» عبرة وسابقة، وهي ليست الحالة الوحيدة.
من مصلحتنا، نحن المواطنين العرب، متابعة ما يجري في هذه «الجبهة» ومن واجبنا أن نحاول الاستفادة من هذه التفاعلات، وذلك لن يتم ما دامت كل الأطر السياسية والحزبية والحركية المدنية والاسلامية الناشطة بيننا، سواء في الكنيست أو خارجها، متمسكة بتزمت عصبي بأنماط عملها، وببرامجها السياسية، التي كانت نقطة انطلاقها عند حدوث النكبة، ويوم إعلان دولة إسرائيل، وهي غير مستعدة لإجراء أي ليونة سياسية، ولو تكتيكية، تفرضها ظروف الساعة والمخاطر الوجودية المحدقة بمستقبلنا وبمستقبل أولادنا. يساورني شعور بأن هنالك تغييرا جدّيا في مواقف مجموعات يهودية عديدة من المعارضين لسياسات اليمين الفاشي؛ وأشعر بأن دوافع معارضتهم اليوم تختلف عما ألفناه من مواقف ومنطلقات الكثيرين من الصهاينة اليساريين وغيرهم، حين كانت معارضتهم لسياسات القمع بحق الفلسطينيين تحت الاحتلال، وبحقنا كمواطنين مضطهدين، مجرد صرخات «أخلاقية» عابرة صادرة عن انتماء صهيوني ليبرالي هش لابن شعب محتل متجبّر، أو نتيجة لخوفهم الصهيوني على مصير دولتهم. قد أكون مخطئا، لكنني أدعو إلى التوقف عند ما يحصل ودراسته بتمعن جدي ومسؤول، والإصغاء لما يقال من خلال بعض المنابر والمواقع المعارضة؛ فشعار «شرطة نتنياهو تقمع الشعب» أو «سرقوا الدولة» أو تشبيه بعض الممارسات الحكومية، وتعاظم مظاهر الفساد بحكم عائلات الاجرام المنظم، وغيرها من الشعارات المستحدثة، كلها قد تكون بوادر لتغييرات جذرية عند من بدأوا يطلقون تلك الشعارات، ويفتشون عن حلول خارج أطر معتقداتهم الصهيونية التقليدية؛ خاصة بعد أن تحققوا مما أفضت إليه مواقفهم السابقة.
قد تكون هذه مجرد تمنيات أو إرهاصات حقيقية لحالات يجب أن تتابع وترصد وتدرس وتوظف، في سبيل توسيع جبهات مواجهة خطر الفاشية؛ فمن لا يوافقني، عليه أن يعلن عن برنامجه لصد الفاشية والانتصار عليها، وليس بالدعاء وحسب وبالايمان بحتمية المسار التصحيحي للتاريخ، وبشعارات مثل لا يصح إلا الصحيح وما إلى ذلك..
كلنا نعرف خريطة القوى السياسية الناشطة بين المواطنين العرب، ورغم ذلك لا أرى من سيرفع الصارية ومن سيعلق الأشرعة، لكنني على يقين اننا نقف على «باب جهنم» واعرف انه ما لم نتحرك فورا فسيسبقنا «الشيطان»؛ فمشاهد عربدات الشرطة ضد كبار رجال الامن السابقين بسبب معارضتهم لسياسات النظام المستبد، وصور العنف الممارس ضد النساء والشيوخ والشباب والشخصيات اليهودية التي شاركت في تلك الاحتجاجات، ستبقى شواهد على كيف تحوّلت مؤسسات الدولة، وشرطتها في المقدمة، من أجهزة موكلة بخدمة الدولة وحماية مواطنيها اليهود – وتمارس بشكل منهجي سياسة القمع العنصري ضد مواطنيها العرب- إلى أدوات مقادة من قبل مسوخ بشرية، وإلى أذرع مسيّسة تلاحق وتضرب، باسم الحاكم الأوحد، كل معارض وكل محتج على شرعية سلطته وعلى سياساته. لسنا وحيدين هنا، فمن سيدق الأجراس على باب جهنم؟
كاتب فلسطيني