لا يختلف اثنان في أننا اليوم، أصبحنا نعيش في أتون عالم إلكتروني متشعب، سماه أحدهم بالقارة السادسة أو المستعمرة الجديدة. إنه عصر ما بعد الثورة الصناعية، أو بالأحرى عصر الثورة الرقمية. وهي على كل حال، وضعية جديدة تستوجب من الإنسانيات، من علوم ومناهج وفلسفات .. أن تفكر مليا في هذا الوجود الجديد، وفي طبيعة العلاقة المحتملة بين الواقعي والاستيهامي، بين المعطى والمحتمل، بين هوية الإنسان التقليدية وهويته الجديدة.
الشعر بوصفه تمثلا رمزيا استخدمه الإنسان، منذ أن عقل ذاته، للتعبير عن وجوده، وكذا فهم كينونته، لم يحد عن هذه الإقامة الجديدة التي جعلته رهن سلطة جديدة، غير الخيال الطبيعي والكتابة التقليدية. سلطة تمنح الأولوية لما يمكن أن أسميه بالخيال الاصطناعي، والكتابة الديجيطالية، تلك التي تحتاج إلى كفاءات ومهارات لم تكن متاحة من قبل.
ووجبت الإشارة بعد هذا التقديم، إلى أنني لست معنيا، وأنا أتحدث عن الشعر الرقمي (الإلكتروني)، بكل ما يكتب على منصات التواصل الاجتماعي باسم الشعر، والحق أن أغلبه لا تتوفر فيه أدنى شروط الكتابة الشعرية، كما أنني لا أقصد الشعر الذي يستخدم بعض المصطلحات التي جاءت إلى عالم الشعر من هذا الفضاء السيبرنيطيقي كمصطلحات الواتساب، والفايسبوك، والشاط، والبارطاج، واللايكات وغيرها، ولا حتى الكتابة الشعرية التي تظل محافظة على هويتها الورقية، حتى وإن كتبت على الحاسوب، وإنما أقصد الشعر التفاعلي الذي تتوفر فيه شروط الكتابة الشعرية الرقمية، والذي تتفاعل معه قراءات وتدوينات متشعبة، صادرة عن قراء لهم إلمام بالنظريات الشعرية، ولهم خبرات وكفاءات عالية في التفاعل الإيجابي مع الكائن الشعري الرقمي.
في السابق كان النص الشعري يستلهم شعريته من ذاته، في علاقتها بالصفحة بما هي بياض وفراغات بتعبير فولفغانغ إيزر؛ إلا أنه مع ظهور الفضاء السيبرنيطيقي/الشبكي، سيوسع النص من دواله، وستغدو تكنولوجيا الرقمنة، هي المصدر الأساس الذي يستلهم النص الشعري منه شعريته.
إن الكتابة الشعرية اليوم، أصبحت تتحقق خارج العادة والمألوف، لأنها بكل بساطة، تستعمل الكثير من التقنيات والروابط التي لم تكن من وسائط الإبداع الشعري في السابق، كالصورة والصوت والفيديو والروابط المدمجة، فضلا عن التعليقات الفورية والتفاعلات الأخرى. هذا الأمر بات يفرض على الشاعر، أولا وقبل كل شيء أن يكون على علم بهذه الروابط، التي تجعل من النص عملا أكثر تشعبا. إن النص الشعري الرقمي هو نص مستقبلي، لأنه غير ثابت، دائم الانفتاح على المستقبل، في إطار علاقة تشاركية متجددة بين الشاعر والقارئ، أيضا وعطفا على ذلك، هو نص يشتغل وفق برامج محددة تفرضها هذه التكنولوجيا الجديدة (الحاسوب)؛ إنه نص موجود وغير موجود، سمته الأساس اللا اكتمال، لأن دور القارئ في تحقيق وجود هذا النص، دور أساس؛ ومع كل قراءة جديدة، يأخذ النص الرقمي وجودا آخر، الشيء الذي يضفي عليه صفات الترابط والتعالق والتشابك.
الكتابة الشعرية اليوم، أصبحت تتحقق خارج العادة والمألوف، لأنها بكل بساطة، تستعمل الكثير من التقنيات والروابط التي لم تكن من وسائط الإبداع الشعري في السابق، كالصورة والصوت والفيديو والروابط المدمجة، فضلا عن التعليقات الفورية والتفاعلات الأخرى. هذا الأمر بات يفرض على الشاعر، أولا وقبل كل شيء أن يكون على علم بهذه الروابط، التي تجعل من النص عملا أكثر تشعبا.
والملاحظ في ظل هذه الطفرة الأدبية، هو أن القراءة لدى القارئ الافتراضي، بما هي الآن فعل رقمي بامتياز، أصبحت تستقبل العمل الشعري، وتتجاوب معه بشكل فوري وآني، أي أثناء كتابته، وإنتاجه على صفحة المنصة. وهذا أمر لم يكن ممكنا في السابق؛ مما يعني أننا اليوم، صرنا أمام عملية تواصلية (الشاعر/ النص/ القارئ ) مختلفة تماما عن عملية التواصل الأدبي الورقية.. عملية تستوجب نظرية جديدة في مجال الشعر، والأدب بشكل عام، من شأنها أن تؤسس لشعرية رقمية تستحضر اشتراطات الرقمنة،ـ إبداعا وتلقيا.
فمثلا المناصات والعتبات Seuils، التي نظّر لها جيرار جنيت في السابق، كالعنوان، والغلاف، واللوحة أو الصورة المصاحبة للغلاف، ولوغو دار النشر، وسنة الطبع، وغيرها من النصوص الموازية Les paratextes بترجمة محمد بنيس، لم تعد هي نفس مناصات النص الشعري الرقمي، بل إننا اليوم نلفي أنفسنا، كقراء، أمام كم هائل من المناصات الأخرى، التي تختلف عن سابقاتها، كالبرمجايت الإلكترونية، ورموز المنصّات، والعناوين التي تظهر وتختفي، ووصلات الإشهار، وحجم الصفحة، طولا وعرضا، ونوع الخط… كذلك الخيال الشعري الطبيعي/ التقليدي، لم يعد هو نفسه في هذا الفضاء السيبراني، وإنما استبدل بخيال من نوع خاص، يمكن تسميته بالخيال الاصطناعي.. خيال يتحرك بتوجيه من المحفزات والمحركات الإلكترونية، في أغلب الأحيان.
لم يعد الشعر إذن، يخضع لما كانت تمليه مقاييس النظريات الشعرية السابقة، القديمة منها والحديثة، بل وحتى تلك التي راهنت على الصفحة بوصفها دالا جديدا، في إطار ما أسمته الشعريات الجديدة بالعمل المفتوح، أو حداثة الكتابة؛ لقد أصبح الحاسوب، ببرمجياته المثيرة والمحفزة، هو الراعي الأول لصناعة النص الشعري، فهو من يمنح النص تشعبه الذي يجعل الدلالة دلالات متعددة المرجعيات..دلالات تستوجب إعمال كل الحواس والمعارف، الطبيعية والاصطناعية، من أجل التفاعل مع النص، استمتاعا أولا، ثم القبض على جزء من كينونته ثانيا.
إن القارئ، في هذا المقام، لم يعد هو نفس القارئ، الذي يعتمد على الإنصات أو القراءة الورقية، بل تحول إلى آلة ديجيطالية، تتفاعل مع ما يظهر على شاشة الحاسوب بنوع من التجاوب الأوتوماتيكي، كما لو أنه هو من ينتج النص، أو يعيد إنتاجه وفق ما يمليه الحاسوب عليه من جهة، ووفق مرجعياته المعرفية من جهة ثانية، عكس ما كان يحدث في السابق، حيث كان القارئ يعتمد، بالدرجة الأولى، على مرجعياته المعرفية فقط في عملية الفهم ومطاردة المعنى.
وضع كهذا أصبح يخيفنا حقا، لأن دور الشاعر في إنتاج النص، أصبح يتقلص بشكل كبير لصالح الآلة. الآلة التي تبدو في ظاهرها، أنها حررت الإنسان بشكل مطلق، وجعلته ينفتح على العالم المُعوْلم في إطار كونية، بقدر ما هي شاسعة، بقدر ما جعلت من العالم حيزا ضيقا للغاية؛ إلا أن واقع الأمر، يؤكد على أن مضمرات الآلة، تجر الإنسان إلى الانسحاب من دوره التاريخي باعتباره مركز الكون، مثلما تجره إلى التخلي عن إنسانيته، والخضوع المطلق لمطامع الشركات الكبرى (العابرة للقارات الست، باحتساب الفضاء الشبكي) التي تستثمر في مجال الرقميات، والتي لا تنظر إلى الإنسان إلا كمستهلك تافه، أو بالأحرى تجعله كذلك.
هذا ما جنته علينا الحداثة السائلة بتعبير الفيلسوف البولاندي « زيجمونت بومان». لكن ليس لدينا اليوم من خيار، وما علينا إلا أن نذعن لهذه السلطة الجديدة، دون أن نستسلم لها، وذلك باستثمارها إيجابيا، من خلال العمل على تخليق هذا الفضاء السيبرنيطيقي قدر المستطاع. عملية تبدو صعبة جدا، لكن بإمكان الدول المستهدفة من قبل هذا الغازي الجديد، أن تتصدى لهذه العولمة المتغولة، عبر فرض رقابة مسؤولة على كل ما ينشر باسم الأدب، وعلى صناع المحتويات بمنصات التواصل الاجتماعي، حتى لا تنقلب الآلة على الإنسان، وتجره إلى حروب قد تكون الأخطر في تاريخ البشرية.
شاعر وكاتب من المغرب