بعد أيام قليلة من التظاهرات الاحتجاجية ضد الرئيس مرسي وتلك المؤيدة له، حسمت قيادة القوات المسلحة الموقف بإطاحة الرئيس وتعطيل الدستور وإعادة مصر إلى مرحلة انتقالية جديدة. في الأيام التالية، وحتى كتابة هذا المقال، تحولت التظاهرات المؤيدة للرئيس إلى حركة احتجاج واسعة النطاق على الانقلاب، مطالبة بعودة النظام الديمقراطي والشرعية الدستورية. هذه ملاحظات أولوية حول الحدث المصري، الذي لا يبدو أن ملامحه النهائية قد تبلورت بعد:
أولاً: إن ما شهدته مصر مساء 3 تموز/يوليو كان انقلاباً غير مسبوق في تاريخ الجمهورية. بمعنى أن الجيش المصري أصبح شريكاً في الحكم منذ 1952، وليس بالضرورة في إدارة عملية الحكم، وأن هذه العلاقة تجلت بصور مختلفة خلال العقود الستة الماضية. والحقيقة، وبالرغم من أن تصوراً ولد، حتى لدى المتخصصين في دراسة مصر والشرق الأوسط، أن عملية الانتقال السياسي في مصر كانت هادئة ومنظمة عموماً، فإن تاريخ الجمهورية المصرية كان مضطرباً، ولم يشهد انتقالاً سياسياً سلساً واحداً. وهذا ما جعل الجيش، منذ إطاحته الملك فاروق في تموز/يوليو 1952، يعود إلى التدخل المباشر من وقت إلى آخر. ولكن، حتى عندما كانت عملية الانتقال تنجز بالقوة العسكرية، وجد الجيش شيئاً من الغطاء القانوني أو الدستوري. هذه المرة، لم يكن هناك مثل هذا الغطاء. وعندما تخرج جموع معارضة لإطاحة الرئيس المنتخب بالصورة التي خرجت فيها الجموع قبل وبعد 3 تموز/يوليو، وتبدأ البلاد تشهد تراجعاً ملموساً في مناخ الحريات والتعددية الذي حققته ثورة كانون ثاني/يناير 2011، فمن الصعب القول إن إطاحة الرئيس جاءت استجابة لإجماع شعبي.
ثانياً: ثمة روايات عديدة متداولة الآن حول الأيام الأخيرة لرئاسة مرسي، والخلافات التي أدت إلى تدخل القوات المسلحة وحسم الموقف وإطاحة الرئيس. بعض هذه الروايات قد يكون صحيحاً بالتأكيد، ولكن السبب الرئيسي لاحتدام الخلاف وإطاحة الرئيس المنتخب يقع في مكان آخر. جوهر المسألة أن الرئيس مرسي، الذي كان يدرك على الأرجح الدور القديم والراسخ للجيش في الحكم، تصور أن ما حققته الثورة الشعبية من انتقال مصر إلى مرحلة من الحرية والديمقراطية والدولة المدنية في شباط/فبراير، ونجاحه في وضع نهاية لازدواجية السلطة بين الرئيس المنتخب والمجلس العسكري في آب/أغسطس 2012، منحه الشرعية في أن يضع حداً لشراكة الجيش التقليدية في حكم البلاد. وقد كانت الأمثلة الثلاثة، التي أوردها الفريق السيسي في بيانه مساء 3 تموز/يوليو حول الخلاف بين القيادة العامة للقوات المسلحة والرئيس مرسي، تشير بوضوح إلى أن الرئيس لم يكن يريد الاستماع لنصائح القوات المسلحة المتعلقة بكيفية إدارة شؤون البلاد. ثمة من يقول إن مرسي تسرع في توجهه هذا، وأن مصر، حتى بعد الثورة الشعبية، ليس مؤهلة بعد لمثل هكذا خطوة. وهناك من يقول، أيضاً، أن رئيساً، حتى إن كان مدنياً ومنتخباً، وحتى إن جاء للحكم بعد ثورة شعبية، ما كان يستطيع أن يأخذ مثل هكذا خطوة والشعب ليس موحداً خلفه. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن المسألة هي هنا، على أية حال، وليست في تفاصيل المشهد من خلافات حول انتخابات مبكرة أو أزمات معيشية، بالرغم من أهمية هذه القضايا في تأزيم الأجواء.
ثالثاً: بغض النظر عن التقارير التي تقول بأن إطاحة مرسي خطط لها منذ زمن، وليست وليد اللحظة، فإن ما حدث أن الجيش استدعي لحسم الصراع السياسي من قبل قوى سياسية مصرية ليبرالية وقومية عربية ديمقراطية، وأن بيان الفريق السيسي تلقى تأييداً من هذه القوى. والمعروف، أن الساحة السياسية العربية، بعد تراجع التيار اليساري منذ مطلع التسعينات، تضم ثلاثة تيارات رئيسية: التيار الإسلامي السياسي، التيار الليبرالي، والتيار القومي، بغض النظر عن أحجام هذه التيارات وشعبيتها وتأثيرها. ما أوحت به حركة الثورة العربية منذ نهاية 2011 أن هذه التيارات الثلاثة تمضي نحو بناء إجماع ما؛ ليس فقط بفعل لحظة الوحدة الشعبية والسياسية عند اندلاع الثورة، ولكن أيضاً بفعل سيادة الخيار الديمقراطي الذي أجمعت عليه القوى كافة تقريباً. مشكلة حركة الثورة العربية أن مسيرة التوافق تعطلت، وأن صراع القوى السياسية، سيما في مصر، سرعان ما تفاقم. ما جرى مساء 30 تموز/يوليو، أوقف لفترة طويلة من الزمن مسيرة التوافق، وخلق مناخاً مدهشاً لم يكن في حسبان أي من الفاعلين السياسيين، حيث يدافع الإسلاميون عن الديمقراطية والشرعية الدستورية، ويرحب أغلب، وليس الكل بالتأكيد، الليبراليين والقوميين العرب الديمقراطيين عن تدخل الجيش في تقرير المسار السياسي للبلاد. وقد ازداد هذا التفاقم عشية المقتلة الهائلة في صفوف المحتجين، المعتصمين أمام نادي الحرس الجمهوري، صباح 8 تموز/يوليو، بعد أن قرر حزب النور الانسحاب من خارطة الطريق الانتقالية، وبدا أن شيخ الأزهر يقوم بخطوة مماثلة، وإن على طريقته الخاصة. هذا الافتراق الحاد في مصر، أكبر دول العرب وصاحبة التأثير الواسع على مناخات العرب السياسية والثقافية، سينعكس على الساحة العربية ككل.
رابعاً: ليس هناك خلاف، على ما أحسب، على أن أحوال مصر، كما أحوال عدد ملموس من الدول العربية، تدهورت على كافة الأصعدة خلال العقود القليلة الماضية. وما كشفته حركة الثورة العربية أن أحد أخطر وجوه هذا التدهور كان فقدان ثقة الشعب في مؤسسات الدولة. بدأ فقدان الثقة ببيروقراطية الدولة، ثم مؤسسة الأمن والشرطة، ووصل أخيراً إلى مؤسسة القضاء، الركيزة الأكثر حيوية لشرعية عملية الحكم. وإن استمر وضع ما بعد 3 يوليو/ تموز، وتخبطاته، فإن قطاعاً كبيراً من المصريين في طريقه لفقدان الثقة بجيشه ومؤسسته العسكرية. وعندما تفقد الشعوب ثقتها بمؤسسات دولتها الكبرى، تكون قد وقفت على حافة الهاوية.
خامساً: كانت مصر منقسمة بالفعل عشية 30 حزيران/يونيو، وليس من المهم الآن الجدل حول ما إن كانت الأغلبية في هذا الجانب أو ذاك، وما هي طبيعة القطاعات والقوى التي تقف في أي من المعسكرين، ولا الأسباب التي أدت إلى تصاعد حدة هذا الانقسام. المشكلة أن إطاحة الرئيس المنتخب، بدون أي سند قانوني أو دستوري، وبقوة الجيش، يفاقم الآن من انقسام المصريين، ويهدد بدفع مصر إلى هاوية من عدم الاستقرار، الله وحده يعلم متى يمكن أن تخرج منها.
وفي ضوء تطورات ما بعد إطاحة الرئيس، والتخبط في مسيرة ما بعد الانقلاب السياسية، وانسحاب قوى سياسية وشخصيات وطنية سبق أن أيدت خارطة طريق الفريق السيسي، الواحد منها تلو الآخر، واستمرار حركة الاحتجاج الشعبية واسعة النطاق، فمن الواضح أن أقصى ما يمكن أن يحلم به صانعو هذا الزال هو جر مصر إلى حالة طويلة من عدم الاستقرار. وفي مناخ انقسامي ودولة غير مستقرة، يمكن توقع أن تتدهور أحوال مصر إلى أية هاوية أخرى، بما في ذلك انفجار العنف. والمسألة التي لابد أن تقلق المجال العربي كله، بما في ذلك الدول الداعمة لإطاحة الرئيس المنتخب، أن هذه كانت وستبقى أكبر دول العرب، وأنها حتى في لحظات ضعفها وانكفائها على النفس، لم تتوقف عن التأثير على جوارها العربي. إن غرقت مصر، فستجر الجوار العربي معها، ويفقد العرب فرصة لم تتح لهم منذ الحرب العالمية الأولى للنهوض واستعادة موقعهم على مسرح التاريخ.
سادساً: ليس بإمكان أحد أن يتنبأ باتجاه الوضع المصري، ولا حتى من أدخلوا مصر إلى هذا النفق. ما أود أن أراه أن يصل المصريون إلى حل يستجيب لمطالب كل الأطراف، بمعنى أن تستعاد الشرعية الدستورية بأكملها، وأن تلتقي القوى السياسية في ظل هذه الشرعية لتوصل إلى خارطة طريق توافقية، بما في ذلك، ربما، انتخابات رئاسية مبكرة. ولكن، ومهما حملت الأيام المقبلة من تطورات، فما بت متيقناً منه أن مصر تحتاج تعديلاً دستورياً سريعاً، يؤسس لانتقال الجمهورية من النظام المختلط الذي أقره دستور 2012 إلى نظام برلماني بحت. فبالرغم من أن مصر نجحت في تجنب انهيار الدولة والاحتراب الأهلي خلال عقود الجمهورية الستة، فإن رئيساً لم يترك منصبه، ورئيساً لم يؤسس لعهده، في ظروف انتقال طبيعية للحكم. أطيح بنجيب، أول رئيس للجمهورية بقوة السلاح؛ وبالرغم من أن عبد الناصر توفي وهو في منصبه، فقد شهدت البلاد بعد شهور قليلة من تولي السادات صراعاً محتدماً على السلطة، أدى إلى زج عدد كبير من رجال نظام عبد الناصر إلى السجن. وكما عبد الناصر، لم يترك السادات موقعه في انتخابات حرة، بل إثر عملية اغتيال مدوية، جاءت بمبارك إلى الرئاسة لثلاثة عقود، أجبر بعدها على التخلي عن الحكم بقوة ثورة شعبية. وخلال العامين الماضين، أطاح مرسي بسلطة المجلس العسكري، بعد أول انتخابات حرة وتعددية فعلية في تاريخ البلاد؛ ولكننا نشهد الان أزمة إطاحته في انقلاب عسكري.
لسبب أو لآخر، ينظر المصريون، سياسيين كانوا أو عسكريين أو من عموم الشعب، إلى رئاسة الجمهورية وكأنها ظل العرش الإلهي على الأرض، وإلى الرئيس باعتباره القادر على كل شيء. وبالرغم من أن العرب، ولأسباب لا مجال للتطرق إليها هنا، يجدون مشكلة في التماهي مع نظام الدولة الحديثة، فربما يوفر النظام البرلماني فرصة لصناعة استقرار مديد، وتطبيع عملية انتقال السلطة. بمعنى، أن تتحول رئاسة الجمهورية إلى موقع رمزي، وأن تصبح مصر جمهورية برلمانية، تديرها حكومات منتخبة، يرجح أن تكون دائماً إئتلافية الطابع.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
ان ما شرحته في هذا المقال وما ابديته من راي اشكرك يا د بشير على ذالك والحل النهاءي هو المطلوب والاشرف
You are right. Most Egyptians are indoctrinated to have a Pharaoh, often a cruel one. They need a German-style or British-style parliament system. That would be a real change.
نسال الله أن تبقى مصر ذخرا للإسلام و العروبة