من غاندي إلى مودي: الهند بين متناقضين

الهند، كبرى «الديمقراطيات» في العالم، ما لها تتجهم لقيمة أساسية تستبطنها تلك الديمقراطية: المواطنة المتساوية التي تحكم وفق مبدأ «لكل مواطن صوت»؟ هذا البلد العريق الذي تفاعلت فيه الحضارات عبر التاريخ، وتعايشت على أرضه الأديان، ما له يتنكر لتاريخه فتتحول شوارع مدنه الكبرى الى حرب عصابات دموية قاتلة؟
الهند التي رفضت يوما أن تكون الا بلدا منتميا لما سمي «العالم الثالث» ما لها تتحالف مع أشد الرؤساء الأمريكيين تعصبا واستكبارا؟ الهند التي قادها الهندوسي المهاتما غاندي فانضم تحت رايته المسلمون وكافة الأحرار، كيف تتنكر اليوم لمبادئه وقيم الحرية والعدالة التي رفعها؟ لماذا لا تستحضر اضرابه عن الطعام احتجاجا على الاقتتال بين الهندوس والمسلمين؟ أليست تلك قيمة حضارية يحق لهذا البلد العريق أن يفخر بها؟ الهند التي تصدر رئيس وزرائها جواهر لال نهرو المشهد السياسي في منتصف الخمسينيات ليشارك قادة التحرر الوطني في 1955 بمؤتمر باندونغ في اندونيسيا، كيف اصبحت منحازة بشكل واضح ضد مكوّن كان شريكا لها في تأسيس منظمة عدم الانحياز؟ في ذروة الحرب الباردة برز اسم نهرو بجانب عبد الناصر المصري وتيتو اليوغسلافي وسوكارنو الاندونيسي ليدفعوا العمل الوطني التحرري في بلدان العالم الثالث على طريق النضال بهدف التحرر من الاستعمار. عندما سقطت «جوهرة التاج البريطاني» من أحضان الامبراطورية العجوز تداعت أركان تلك الامبراطوية وتقلص نفوذها وانتهى عهدها الامبراطوري.
الهند ذات الاقتصاد العملاق، ما لها تتنكر لفقرائها المسحوقين وتنهي سياسات التمايز بين الطبقات الاجتماعية؟ واخيرا ما الذي اعترى الهند التي كانت أحد الرموز الكبرى في التصدي للامبريالية، والمناصر الكبير للشعب الفلسطيني، كيف اصبحت تتحالف مع «إسرائيل» وتتغاضى عن الجرائم التي ترتكب يوميا بحق ذلك الشعب؟
الدماء التي تراق يوميا منذ شهرين في شوارع الهند انما هي دماء حلفاء الأمس، وأجدادهم هم الذين ساهموا في بناء تاريخها، وما «تاج محل» إلا أحد الشواهد على ذلك. أما الاستعراض الضخم الذي نظمته الحكومة المتطرفة لاستقبال الرئيس الأمريكي، فقد كان محاولة لصرف الانظار عن الاحتجاجات والتظاهرات التي شارك فيها الهنود، بشتى اطيافهم، للاحتجاج على زيارة رئيس عنصري ترفضه شعوب العالم، ولا ينسجم إلا مع من يدفع المليارات من جيوب الفقراء لاسترضاء أغنى دولة. ليس صعبا على أي نظام سياسي أن يعبئ آلافا من البشر في ملعب رياضي لترديد سياسات السلطات الحاكمة، ولكن ذلك لا يمثل حقيقة ما يختلج في قلوب الكثيرين حتى من المشاركين في الاستعراضات الشكلية. فلم يحظ ترامب باستقبال في اي بلد كما حدث في الهند الاسبوع الماضي. فهل ساهمت تلك الزيارة في تقوية حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم بزعامة رئيس الوزراء نياندرا مودي؟ أم أن ذلك الاستعراض كان مغامرة ستنعكس سلبا على حظوظ الحزب في الانتخابات المقبلة؟ أيا كان الامر فقد شعر ترامب ان هناك من زعماء العالم من هو مستعد لتغيير جلده وبيع ضميره. لكن هؤلاء قليلون، وهم يحملون افكارا مشابهة لما يحمله الرئيس الأمريكي من عنصرية واستعلاء وغرور ونزعة للاستبداد والاستئصال. فما اشبه سياسات الرجلين. الضيف الأمريكي هو الذي أعلن سياسات عنصرية واضحة عندما اصدر امرا بمنع المسلمين من بضع دول من دخول الأراضي الأمريكية. ذلك القرار عنوان لتوجهات يفترض ان النضال البشري على مدى نصف قرن قد قضى عليها. فبسقوط النظام العنصري في جنوب افريقيا قبل ثلاثين عاما اعتقد الكثيرون أن ذلك سيكون نهاية العنصرية التي عاشتها أمريكا نفسها عقودا حتى نهاية الستينيات. ولكن سرعان ما استعادت القوى الشريرة في هذا العالم قوتها، وكشرت عن أنيابها في دول غربية عديدة تعلن عنصريتها بدون خشية او استحياء.

الهند التي تصدر رئيس وزرائها جواهر لال نهرو المشهد السياسي في منتصف الخمسينيات ليشارك قادة التحرر الوطني في 1955 بمؤتمر باندونغ في اندونيسيا، كيف اصبحت منحازة بشكل واضح ضد مكوّن كان شريكا لها في تأسيس منظمة عدم الانحياز؟

هذه المرة يتزعم هذا التوجه رئيس أكبر دولة، ويقتدي به رئيس وزراء اكبر «ديمقراطية» في العالم (من حيث عدد السكان). في هذا الزمن الرديء يعاد انتخاب واحد من أسوأ زعماء الكيان الإسرائيلي، مدعوما بسياسات البيت الأبيض وصمت المجموعة الدولية على انتهاكاته المتكررة للقرارات الدولية، وتوسيع دائرة الاحتلال لتشمل مساحات واسعة في الضفة الغربية بالاضافة للجولان.
الهند قادرة على النهوض بدورها التاريخي، ولكن ليس بحكم حزب هندوسي متطرف. المشكلة ان «الديمقراطية» التي اوصلت هتلر الى الحكم في المانيا في الثلاثينيات هي نفسها التي أوصلت ترامب للرئاسة الأمريكية وحزبي مودي ونتنياهو الى الحكم. والواضح ان هناك انسجاما غير قليل بين هؤلاء الزعماء الذين يمسكون بتلابيب السلطة في بلدانهم، محكومين بايديولوجيات مدمرة يفترض انها انقرضت منذ عقود. ولكن ثمة «ردة» سياسية على القيم والمباديء العصرية من قبل التوجهات ذات النزعة المتطرفة. الأمر الايجابي أن الهند حبلى بالمفاجآت. فالذين يحتجون يوميا ضد سياسات مودي كثيرون، وهم قادرون، لو توحدت جهودهم، على إعادة التوازن لبلدهم بانتخاب حزب آخر بزعيم اكثر إنسانية. ففي الانتخابات التشريعية الاخيرة التي اجريت في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي بإقليم جهارخاند وهو أحد معاقل الحزب القومي الهندوسي (بهاراتيا جاناتا) وجه الناخبون صفعة قوية للحزب، الأمر الذي أثار صدمة في أوساطه. وليس مستبعدا خسارة الحزب في الانتخابات العامة في 2024. مع ذلك استمر عنف انصار الحزب الحاكم ضد المسلمين الذين لم يتوقفوا عن الاحتجاج ضد القانون السيئ الذي يمنع تجنيس المهاجرين المسلمين دون غيرهم. ما شهدته دلهي في الأسابيع الماضية هو عنف يستهدف المسلمين على يد عصابات قومية هندوسية، أغلب عناصرها من أنصار الحزب الحاكم في البلاد، كانوا يرددون شعارات «المجد للإله راما، والهند للهندوس». ويرى معارضو القانون من غير المسلمين ان الهند بلد علماني لا يسمح بادخال الدين في القضايا السياسية، فكيف تميز الحكومة بين البشر على اساس الانتماء الديني؟
وفيما يعتقد البعض ان زيارة ترامب للهند ربما ساهمت في تقوية الحزب الحاكم وزعيمه نياندرا مودي، فان هناك توجهات ايديولوجية قوية تعتقد ان العكس هو الصحيح، وان قدر الهنود ان يتعايشوا في وئام على اختلاف انتماءاتهم الدينية، وان سياسات الحزب الحاكم لن تحقق أمن البلاد او استقرارها. فثمة تواز بين سياسات مودي وترامب: اول وجوه تطابق سياسات الزعيمين مواقفهما من المسلمين. فما أوصل الأمور في الهند إلى هذا الحد، هو تمرير قانون جديد في شهر كانون الأول/ديسمبر، يتعلق بمنح الجنسية الهندية لمعتنقي ديانات وافدين من بلدان مجاورة، دون المسلمين. إنه يتعارض مع دستور البلاد، ويهمش حوالي 300 مليون مسلم في الهند، من أصل 1.4 مليار نسمة، معظمهم من الهندوس. أدى سن ذلك القانون إلى خروج الكثيرين في مظاهرات احتجاجية عدة، خلفت عشرات القتلى. ولا تنحصر معارضة هذا القانون بالمكوّن المسلم الذي يمثل خمس سكان الهند، بل يشاركهم في ذلك أحزاب تقدمية عديدة في مقدمتها حزب المؤتمر الذي أنجب القادة التاريخيين المذكورين. هذه الاحتجاجات ضد القانون المذكور هتفت ايضا ضد زيارة ترامب، وتسعى لاعادة الهند الى سياساتها التقدمية التي تناصر الشعوب المظلومة وتتحالف معها. مع ذلك لا بد من الاعتراف بوجود تناغم كبير بين سياسات ترامب ومودي. ثاني وجوه هذا التطابق الموقف من الأراضي الاسلامية المنكوبة بالاحتلال. فقد دعم ترامب سياسة نتنياهو بضم مساحات من الضفة الغربية الى الكيان الإسرائيلي، بالإضافة لضم الجولان، وذلك انتهاك واضح للقرارات الدولية المتعلقة بفلسطين. أما حكومة الهند فقد قامت في آب/أغسطس 2019، بإلغاء نظام الحكم الذاتي في إقليم جامو وكشمير ذي الأغلبية المسلمة، استجابة لمطلب الهندوس، وتعاملت بوحشية مع المحتجين ضد ذلك القرار. وثالث وجوه التطابق انتماء الزعيمين لتيارين متطرفين، بالإضافة لموقفهما ازاء «إسرائيل».

كاتب بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars. #TUN.:

    كل بلد يتمكن منه الصهاينة فإن وضعه الإجتماعي يكون على غرار الهند من أجل إضعافه والنيل من تماسكه.

إشترك في قائمتنا البريدية