لطالما سمَح السفر للإنسان بالهروب من حياته اليومية، واكتشاف تجارب ورؤى مختلفة للعالم، وأتاح له إمكانات أن يعيش أحاسيس جديدة، ومكّنه من الشعور باللذة والفرح والبهجة. لذلك يعتقد بعض الناس أن السّفر سبيل من سبل تحقيق السعادة، بينما يعتقد البعض الآخر أن السّفر ليس كذلك دائماً، بل قد يكون محنة صعبة وأحياناً مأساوية، لا يجلب أي سعادة لصاحبه. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عمّا إذا كان السّفر بالفعل مصدراً لسعادة المسافر أم لا؟
للجواب عن هذا السؤال، ننطلق من نصّ رحلي صدر مؤخراً للكاتب المغربي عبد الرحمن شكيب (طنجة: منشورات سليكي أخوين2021) يحمل عنوان «من كازابلانكا إلى مونتريال كثيراً ما يُحكى ويُقال» وهو عرض لسفر أقدم عليه الكاتب رفقة زوجته بهدف السياحة، في عدد من المدن الكندية التي وصفها بـ«الأرض السعيدة البهيجة».
على خلاف مقولة «السّفر قطعة من العذاب» السّائدة في مقدّمات كثير من الرحلات العربية الكلاسيكية والحجّية منها على وجه الخصوص، يؤسّس عبد الرحمن شكيب لمقولة «السفر أحد سُبل السعادة» بالنظر إليه على أنّه لحظات سعادة يعيشها المُسافر في عوالم تضافرت لتخلقُها له وتضعُه وسطها، تجعله يقدِم على تجربة جديدة في حياته، ويقضي وقتاً ممتعاً يغيّر إيقاع حياته، ويدفعه إلى تغيير نظرته لنفسه وللعالم، ويزيد من فائض انبهاره بالجديد، ويمكّنه من تذوّق جمال العالم بكل حواسه، ويجعله يتعجّب من أي شيء: نكهة جديدة، بنايات، طرق، سلوكات، مناظر طبيعية رائعة، متحف، معلمة تاريخية، مقاه زاهية، جنبات، أكلات، وجبات مشتركة، حوارات، نزهات، ابتسامة يتلقاها… وغيرها مما يبعث على الابتهاح. كل هذا يجعل كندا، في نظر الكاتب، تتربّع على عرش الجمال الآسر والمدهش، بما تعرضه من قصص غريبة، تفتح الشّهية على الحياة وعلى الأمد البعيد، على حد تعبير عبد الرحمن شكيب.
ترتبط السعادة بشكل أساسي بإعطاء معنى لحياتنا؛ معنى ينبع مباشرة ممّا هو أعمق فينا، من جوهر ما يجعلنا بشراً. والسّفر في نص عبد الرحمن شكيب يُعيدنا إلى هذا الجوهر الإنساني، من خلال ما تُتيحه له كندا، كبلد يتصالح مع هذا الجوهر، ويجعل الكاتب يدرك بجلاء وبانبهار كبير، ِقِيَم تساوي الناس في الحقوق والواجبات، والتعايش بينهم في أرقى تجلياته، بغضّ النظر عن الأصل أو العرق أو الجنس أو الطبقة أو المعتقد، واحترام القانون المنصف للجميع، والانضباط والنظام والنظافة والدقّة واحترام المواعيد، وغيرها من القيم التي يعدمها في بلده المغرب أو توجد به عكسها. ما يؤكد هذا التقابل هو استعمال أسلوب الكاتب في غير ما موضع، أسلوب المقارنة المعتمد على التعارض الذي يبرزه استعمال الكاتب للنفي، أي نفي ما تركه في بلده «لا أحد يلقي بأعقاب السّجائر ولا بعلكة». «لا مكان للعفن، لا فرصة لتشويه صورة المطعم أو المكان الموجود فيه». تحفّز وفْرة هذه القيم والاكتشافات الجديدة الانفعالات الإيجابية للكاتب أمام لقاءات غير عادية، وتصرّفات وسلوكات ومناظر تهزّ شغاف قلبه وتمسّ روحه، وتثريه داخلياً وتجعله يتجول بين الأماكن وهو كله ابتهاج.
ولا يكتفي عبد الرحمن شكيب بنقل انبهاره الخاص، بل يحرص أيضاً على نقل انبهار الزوار الآخرين، الذين رافقوه خلال رحلته السياحية هذه، كأنه يحاول من خلاله إضفاء مسحة موضوعية على انبهاره. يقول: «ينبهر الزوار وتراهم مشدوهين مشدودين إلى قمة هذه الروعة». ولتعزيز مقولة «السّفر أحد سبل السّعادة» ينطلق الكاتب من مقولة أخرى وهي، إن «السّعيد الحقيقي هو من يسْتطع إسعاد غيره». مؤكدا أن الكنديين «يستمتعون بوطنهم ويفتحون أحضانهم للآخر لتقاسم هذه السعادة الغائبة في أوطان عديدة، نتيجة الحروب أو القهر أو التسلط». ويحرصون على ما يجلب الراحة والبهجة للإنسان؛ من ترحيب وحسن ضيافة وتضحية وتفان في تقديم الخدمات، وتعاون مع الطبيعة على صناعة الجمال وتقديمه لمن يسعى إليه، وغيرها من الصفات التي تؤسس لإنسانية الإنسان، وتؤكد على التفرد الكندي. كما يقدم الكاتب بورتريهات عن بعض الشخصيات التي التقاها ويقف عنْد بعض صفاتها الإيجابية التي تُسهم في إسعاد الآخرين حولها بتفانيها وإخلاصها في أداء وظيفتها (سائق الحافلة، سائق التاكسي، المرشد السياحي…).
كاتب مغربي
مقالات موفقة كالعادة
فعلا السفر باب الى السعادة و هي سعادة فكرية و روحية ؛ حيث حقق له توقعاته عن كندا على جميع المستويات …