كان اسم عبد الله المحيسن يمرّ بي عرَضا أثناء قراءاتي عن السينما، فلم يكن الإنتاج السينمائي السعودي حاضرا في ظل طغيان السينما المصرية تحديدا التي تربى جيلي والأجيال التي سبقته على أفلامها وأبطالها ومخرجيها. وهذا الغياب للسينما السعودية غيّب معه روادها وإنجازاتها، وإن كانت قليلة لطبيعة البلد المحافظة، حيث كان التصوير يطاله التحريم فما بالنا بالسينما التي تحمل في المخيلة الجمعية مضامين متحررة، ومن الطبيعي أن لا تكون هناك نهضة سينمائية وقاعات العرض ظلت مغلقة لما يقارب الأربعين سنة بعد حادثة الحرم الشهيرة. وكيف يكون هناك إنتاج سينمائي سعودي وجمهوره الأول أي أصحاب البلد لا يمكنهم مشاهدته. وليس هذا عذرا لتأخر اكتشافي لعبد الله المحيسن وإنجازاته، إلى أن تتابع تكريمه في الفترة الأخيرة، سواء من مهرجان العين السينمائي الدولي في شهر فبراير/شباط، أو مهرجان السينما العربية في شرم الشيخ في شهر يوليو/تموز. وشاءت الأقدار أن ألتقيه شخصيا وأتحدث معه في مؤتمر النقد السينمائي الدولي بعنوان: «ما وراء الإطار» الذي كان لي شرف حضوره قبل قرابة الشهر في الرياض، وقد كتبت عن هذا المؤتمر مقالي السابق في «القدس العربي».
لقائي بعبد الله المحيسن مع ثلة من المهتمين بشؤون السينما، كان فرصة لي للتعرف عن قرب على هذه الشخصية الريادية في بلده. ابتداء بحضوره الإنساني المحبب في دارته ذات الطراز الأندلسي التي تذكرك في كل تفصيل فيها بمجالس ابن زيدون وولادة والمعتمد بن عباد في حدائق أشبيلية وقرطبة. والتفات المُضيف إلى أدق التفاصيل حرصا على راحة ضيوفه يخدمهم بنفسه إن لزم الأمر، في تواضع الكبير، مع حرص على الاستماع، وهي خصلة أصبحت نادرة الآن. ضم المجلس شبابا برغبتهم العارمة في التجديد والتجريب، يجالسون مخضرمين كان لهم شرف الريادة وفضل السبق. في تناغم لافت ما كان ليتم لولا ما انتهجته المملكة السعودية من انفتاح في سنواتها الأخيرة، وما وفرته للصناعة السينمائية من دعم، أعاد الاعتبار لهذا القطاع الذي غُيّب طويلا، ففُتحت صالات العرض سنة 2018 وأُنشأت هيئة للأفلام وأُقيمت مهرجانات لعروضها كما أُطلقت مجلة بعنوان «كراسات سينمائية» وهي أول مجلة سعودية متخصصة في السينما. وكانت أبوة عبد الله المحيسن تشجع الشباب على طرح أفكارهم وهواجسهم على من يعدّونه عراب السينما السعودية، الذي آمن بها يوم لم يكن أحد يعتقد أن ذلك ممكن الحدوث، بل ذهب بعيدا في تفاؤله حين صرح للصحف سنة 1978 قائلا: «ستكون السعودية هي رائدة الإنتاج في العالم العربي». وما نبوءته ببعيدة التّحقق فالسعودية الآن من أنشط الأسواق عالميا في مجال السينما ومن أسرعها نموا.
في ختام السهرة الحافلة بكل ممتع ومفيد أهداني عبد الله المحيسن كتابا ألفه عن تجربته السينمائية الناقد السينمائي والصحافي إبراهيم العريس ونشرته الدار العربية للعلوم في بيروت سنة 2019 بعنوان «من مكة إلى كان.. سينما عبد الله المحيسن» ولم أطق صبرا أن أصل إلى دبي لقراءته، فقرأته في الطائرة لسببين: أولهما أني متابعة لمقالات العريس، منذ أن كان يكتب مراجعاته السينمائية في صحيفة «الحياة» اللندنية وأختها الصغرى مجلة «الوسط»، وكانت كتاباته مادة تثقيفية دسمة في مجال النقد السينمائي مع أسلوب يجمع بين رصانة الناقد وسلاسة الصحافي، وثانيهما لأشبع نهمي في التعرف على إنجاز عبد الله المحيسن السينمائي، والاقتراب من عوالم شخص آمن بالسينما وأخلص لها ومارسها في ظروف أكثر من صعبة، مصحوبة بمعارضة من المجتمع والأهل. ويكفي لتقدير ذلك أن نعرف أنه ابتدأ رساما أُجهضت موهبته لأن والده المتأثر بالموقف الديني السلبي من الرسم طلب منه حازما التوقف عن السير في هذا الطريق.
يرى إبراهيم العريس، أن كتابه اعتراف بالدور الأساس والرائد الذي لعبه عبد الله المحيسن في نهضة بلاده السينمائية لأنه «آمن بالسينما السعودية ومستقبلها في وقت كان كل شيء حول هذا الأمر يبدو غامضا، بل مارقا بالنسبة لبعض المتمسكين بالعصور المظلمة». وإعجاب العريس بمنجَز المحيسن جعله يظلم قليلا بعض الرواد الآخرين مثل المخرج السعودي سعد الفريح، في فيلمه «تأنيب الضمير» الذي أنتج سنة 1966، وهو كما جاء في المقالات التي أرخت لبدايات السينما السعودية أول فيلم سينمائي سعودي. وإن شكك العريس في قيمة الفيلم الفنية غامزا من قناته، أن له قيمة تاريخية متحفية فقط. مع الإشارة إلى أن لا شيء يضير المحيسن إن كان سُبق بفيلم أو فيلمين سينمائيين، فما راكمه على صعيد الأفلام التسجيلية وفيلمه الطويل يمنحه حق الريادة، مما يذكرنا بقضية ريادة الشعر الحر بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.
في فصل البدايات والتكوين الذي يحمل عنوان «طفولة في مكة وشغف مبكر بالفن السابع» يضيء العريس على البيئة التي نشأ فيها عبد الله المحيسن البعيدة عن السينما والفنون البصرية، فالكتاب كان سيدا غير منازع إلى حين دخول التلفزيون في الستينيات على استحياء إلى البيوت. والاهتمام الحقيقي بالسينما كان أثناء الدراسة في لبنان وإقامته مع أسرة مكونة من امرأة لبنانية وزوجها الإنكليزي الذي كان يناقش المحيسن في ما يراه من أفلام أصبح من ورائها عبد الله المحيسن زائرا منتظما لصالات السينما التي كانت يومها تعرض آخر الإنتاجات العالمية. هذه النقاشات مع شغفه الكبير دفعاه إلى الالتحاق بمعهد لندن للأفلام، ليحصل منه بعد سنوات من الدراسة الأكاديمية على دبلوم عالٍ في الإخراج سنة 1975، وبعدها بسنة واحدة فقط أنجز فيلمه التسجيلي «اغتيال مدينة» عن الحرب اللبنانية التي اندلعت في تلك الفترة. ويؤكد العريس أن أفلام عبد الله المحيسن التسجيلية كانت وكأنها تفرض نفسها عليه، ف«كاميرا المحيسن تعايش الأحداث والتقلبات، وتقف مستعدة بشكل دائم للتحرك رغما عن جداول أعمال المخرج» مشبها إياه بالإطفائي الذي يترك كل شيء بين يديه ويسارع إلى إطفاء الحريق. وهكذا فعل في فيلمه التسجيلي الثاني «الإسلام جسر المستقبل» سنة 1980 الذي أضاء فيه على المسألة الأفغانية والصراع الدائر بين رجالها، والجيش السوفييتي، منطلقا من قناعة لا يخفيها أن «ثمة تواطؤا دوليا ولاسيما بين الاتّحاد السوفييتي والولايات المتحدة للنيل من العالم الإسلامي». والقضية الثالثة التي جرَّت كاميرا المحيسن لتوثيقها في فيلمه التسجيلي الثالث «الصدمة» سنة 1991 هي غزو العراق للكويت، وقد أحدث الفيلم جدلا بين مؤيد ومعارض، ولكن أليس جوهر السينما الحقيقي هو طرح التساؤلات وليس إعطاء الأجوبة اليقينية.
يطيل إبراهيم العريس الوقوف مع أول فيلم روائي طويل لعبد الله المحيسن بعنوان «ظلال الصمت» سنة 2006 محللا مضامينه بالتفصيل وهو يتناول أزمة الفرد العربي وعجزه أمام نظام متسلط يعتمد غسيل الأدمغة ومنتجات التكنولوجيا لتطويع الفرد، وإذا كان الفيلم لم يحدد بلدا معينا فمن السهل إسقاطه على العديد من الأنظمة الديكتاتورية الشمولية. ويرى العريس أن الفيلم رغم بعض النقائص فيه كضعف السيناريو واستخدام الفصحى، التي أعطته طابعا تلفزيونيا، حجز له مكانة مميزة على خريطة الفن السابع لخطابه الفكري وأسلوبه التجديدي في عرض هذا الخطاب.
في الكتاب فصل مهم عن القمع والحرية في السينما العربية وحديث عن حلم عبد الله المحيسن المزدوج بتقديم فيلم عن القدس، وهي التي نجد إشارات إليها كثيرة في أفلامه التسجيلية، وعن مرحلة تأسيس المملكة، وهما لحد الساعة مشاريع مؤجلة لرائد السينما السعودية الذي بدأت قراءة الكتاب وأنا لا أعرف عنه إلا عناوين عريضة وأنهيته بتقدير كبير وإعجاب بهذا المخرج الذي عاند كل المعوقات ليلحق بحلمه، في رحلة لم تكن مفروشة بالورود من «مكة» إلى «كان».
شاعرة وإعلامية من البحرين