حتى إن غضوا الطرف عنه وتجاهلوه ولم يلقوا بالا لوجوده غير بعيد عن قاعتهم، واستنكفوا تماما من أن يخصصوا له مقعدا وثيرا بالقرب من مقاعدهم، ولم يمنحوه ولو قليلا من الأبهة والفخامة التي أحاطوا بها انفسهم ولم يدر بخلد أي منهم أن يكرم وفادته ويعلو من مقامه، وصمموا على أن يديروا له ظهورهم ويتناسوه مغلقين أسماعهم عن صرخاته ونداءاته، فقد استطاع بعبع الحكام العرب في الأخير أن يكون هو النجم الحقيقي للقمة العربية في تونس بدلا منهم. وكان واضحا أن عنوان تلك القمة الباهر والعريض، أي «العزم والتضامن» كان في الأصل شعارا فارغا ومضللا لأبعد حد، وواجهة لم توقف الانزياح المعتاد في ترك كل المخرجات والقرارات رهينة للدوران الأجوف في فلك نظام رسمي بلا لون ولا طعم ولا روح.
ولولا اختلاف الاماكن والاسماء لجاز لنا أن نطلق على القمة العربية في تونس اسم قمة الظهران الثانية، أو أن نختصر الطريق فنقول عنها بأنها كانت قمة أنظمة الثورة المضادة بمنطقها المتكلس القديم، وأسلوبها الثابت والعتيق، في بلد كان في الأصل مهد وشرارة الثورات بكل طموحاتها وآمالها التجديدية العريضة. ومثلما يحصل في كل القمم العربية فقد كان هناك من يبحث في قمة تونس عن المزيد من أضواء الشهرة والمجد الاصطناعي، وتلميع صورته المهزوزة والملطخة بدماء الأبرياء، أكثر من سعيه حتى لمجرد تفحص جدول الأعمال، أو التمعن في القضايا التي تطرق لها البيان الختامي.
وكانت واحدة من حالات الحيص بيص العربي هي شبه الورطة التي سقط فيها أكثر من موقع إخباري، ساعات قليلة قبل انطلاق جلسة افتتاح القمة. فبعد أن قرأ متابعوها أن «المفاجأة الأبرز» في القمة كانت غياب الجنرال المصري عنها، عادوا ليعلموهم من جديد أنها أي تلك «المفاجأة الأبرز» كانت حضوره. وبالفعل ففيما كان ينتظر وصول عبد الفتاح السيسي مساء السبت فاجأ الاخير الجميع بتغيبه ثم قدومه على عجل صباح الأحد. وبعد أن كانت كل الترتيبات جاهزة لاستقباله في الموعد الذي اتفق عليه الطرفان مسبقا، سارع المحيطون به ليسربوا للصحافة التي لا يكن لها ولو ذرة ود، ولا يطيق أن يراها لا في بلده ولا حتى خارجه حرة ومنطلقة من دون قيد، اعتذاره عن الحضور لأسباب وصفت بالأمنية، وبقيت إلى الآن مجهولة وفي علم الغيب. ثم ومثلما يحصل في فيلم بوليسي من أفلام الإثارة وفي اللحظة التي اعتقد فيها الجميع بأنه قد عدل بالفعل عن المجيء، وكان فيها الرئيس التونسي نفسه بصدد الاستعداد لاستقبال ضيوفه في قصر المؤتمرات، حطت طائرته على أرض المطار ليخف للترحيب به مستشار الباجي قائد السبسي ووزير الدفاع. لقد كان الأسلوب مريبا وملتبسا بلا شك، وأعاد للأذهان شطحات زعيم عربي راحل كان والى زمن غير بعيد نجم القمم العربية بلا منازع، وعرفه التونسيون كما عرفته باقي الشعوب العربية بتلك البصمة بالذات، فضحكت حينا واهتزت أحيانا أخرى، ومست في الصميم من كلماته. غير أن الزمن لم يعد الزمن نفسه، فالقادة غير القادة، والشعوب ايضا لم تعد الشعوب نفسها، إذ لم يظهر على معظم التونسيين ما يدل على أنهم كانوا شغوفين اصلا بمتابعة أعمال القمة، التي جرت في بلادهم، أو في البحث عن رئيس أو زعيم جدير بأن يكون نجما من نجومها.
لم يعد بمقدور أي حاكم عربي اليوم أن يكون نجما، رغما عن إرادة ذلك الشارع العربي وقراره، والجزائر المثال الاخير على ذلك
لقد ولّى ذلك العهد الذي كانوا فيه يستمتعون بشطارة ومهارة وغرائب العقيد الراحل القذافي، في لعب ذلك الدور، أو يتأملون كيف كان مجرد حضوره في تلك القمم يكفي لأن يحول على الفور أنظار الصحافيين والمتابعين نحوه، ويشدهم إليه بقوة ويجعلهم يسهبون في الحديث عن خيمته، التي لم يكن يرتاح للمبيت في غيرها، حتى لو تنقل إلى أبعد مكان عن ليبيا، أو يتبادلون التعليقات حول طريقة لباسه، التي كانت تبدو لهم شاذة وغريبة، أو خطاباته الحادة والقوية، التي نادرا ما كانت تمر بسلام من دون أن تثير حنق هذا الملك أو غضب ذلك الرئيس، أو تكون القادح الفعلي لإعلان قطيعة جديدة بين النظام الليبي ونظام عربي اخر. ولعله كان يبدو لهم شخصا مشاكسا، وربما حتى مختلا، لكن طريفا باستطاعته أن يكسر الجمود الرسمي للقمم العربية ويخرجها من جمودها ويجعلها قابلة للرواج والتسويق الشعبي الواسع. غير أن بعضا من خطاباته الشهيرة كتلك التي ألقاها في قمة دمشق، بقيت ترن حتى الان في آذان من لم يصابوا بعد بآفة الصمم التي ابتلي بها معظم القادة العرب، فضلا عن امراض الخرف والشيخوخة التي يعانون منها. لقد قال حينها من كان يطلق على نفسه لقب ملك ملوك إفريقيا للزعماء العرب، الذين كانوا يتابعون خطابه بمزيج من الملل والحذر من حممه الكلامية، التي لم يكن أحد منهم بمأمن من أن لا يصيبه القليل أو الكثير منها، إنه ينصحهم أولا بان يستخدموا السماعات حتى ينصتوا بشكل أفضل لكلامه قبل أن يضيف «لكن إلى برة يسمعوا أفضل من اللي جوه». لكن المقطع الاكثر تداولا ظل ذلك الذي قال لهم فيه في معرض إشارته إلى شنق الامريكان لرئيس عربي هو صدام «لا شيء يجمعنا غير هده القاعة»، قبل أن يسألهم عن سبب عدم تحقيقهم في مقتله، مبديا استغرابه مما وصفها بقتل قيادة عراقية بالكامل، من دون أي ردة فعل، وموجها تحذيرا غير مسبوق لهم وسط قهقهة البعض منهم، من خلال تلك العبارة الشهيرة «ممكن الدور بكرة جاي عليكم كلكم». ولكن هل كان من الممكن الآن لأي قائد أو رئيس آخر غيره أن يكرر الدور نفسه؟ وهل أن ما فعله السيسي مثلا يمكن أن يجعله قذافي قمة تونس ولو بشكل جزئي بتعمده اصطناع تلك الحالة من الغموض حول قدومه من عدمه؟
لا شك بأن أحلام المجد والنجومية راودت ولاتزال كثيرين، كالجنرال المصري وباقي الحاضرين والغائبين عن القمة، رغم انهم صاروا يعلمون جيدا كيف انتهى القذافي وشلة الطغاة في تونس ومصر واليمن وغيرها، ولكن هناك بعبعا حقيقيا صار يقض مضجعهم بقوة ويحول أحلامهم تلك إلى كوابيس مزعجة ومخيفة وهو الشارع العربي. فلم يعد بمقدور أي حاكم عربي اليوم أن يكون نجما، رغما عن إرادة ذلك الشارع وقراره، وليست الجزائر سوى المثال الاخير على ذلك. وربما يكون النجاح الوحيد لقمة تونس هو انها كانت القمة العربية الاولى التي سمع فيها العالم لا عنتريات القادة وخطبهم الرنانة فحسب، بل ايضا اصوات الرفض الشعبي لكل تلك الجعجعة المعتادة.
ولئن لم يخرج ملايين التونسيين للشوارع، ولم تضغط النقابات وهيئات المجتمع الأهلي والصحافة بالشكل القوي والمطلوب، فإنها كانت جميعها مع ذلك النجم الساطع والمتلالئ في سماء قمة لا شيء كان يدل على انها كانت ستكون افضل من سابقاتها أو أسوأ مما سيأتي بعدها.
كاتب وصحافي من تونس