يدعو العديد من المحللين الغربيين النظام الروسي بالـ»كليبتوقراطية» أو الـ«أوتوقراطية» لأن هذه الأنظمة تحافظ على ولاء النخب والسكان، من خلال إعادة توزيع الفوائد والغنائم والاعتماد على طبقة ثرية فاسدة.
ويركز المحللون الغربيون على أنه عندما يتحدث الرئيس بوتين عن الاقتصاد الروسي، فهو يركز على مؤشرات استقرار الاقتصاد الكلي، من حيث انخفاض التضخم، وانخفاض العجز في الميزانية، وانخفاض الدين العام ليصل إلى 18% فقط من قيمة الناتج القومي في نهاية 2020، وثبات الفائض في الحساب الجاري، ووصول الاحتياطات النقدية من الدولار إلى 596 مليار دولار، لكنه لا يتكلم عن النمو الاقتصادي ومستوى المعيشة المتدني للروس، حيث انكمش الاقتصاد الروسي من 2.3 تريليون دولار في 2013 إلى 1.7 تريليون دولار في 2021.
وحسب منظورهم، فإن الفكر الاستبدادي لبوتين وانشغال الكرملين بالسيادة للوقوف في وجه العقوبات الاقتصادية، وأهمية الحفاظ على أمنه السياسي، هو ما يجعل بوتين يحاول الحفاظ على الحد الأقصى من الاحتياطيات، أكثر من الاهتمام بتعزيز مستوى المعيشة لسكان روسيا. وروسيا تحتاج إلى رفع نسبة الاستثمار، وتفعيل ريادة الأعمال لدعم النمو الاقتصادي، وهو العامل الأساسي المفقود في المعادلة الاقتصادية الروسية. الفاسدون في أي نظام كليبتوقراطي يريدون حماية أموالهم، وهذا ما يشكل الحلقة الأضعف في هذا النظام، من خلال حقوق الملكية الممنوعة في الداخل الروسي، لذلك هم مضطرون للاحتفاظ بمدخراتهم في الخارج، وهناك كميات ضخمة من الأموال السوداء لروسيا محتجزة في الغرب، وبتقييم متحفظ تقدر الأموال الروسية الخاصة المحتجزة في الخارج بتريليون دولار، ويقدر أن ربع هذا المبلغ يعود للرئيس بوتين والمقربين منه، وهي ضمن شركات مجهولة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
ما تفعله روسيا اليوم هو الدبلوماسية القسرية المتمثلة في حشد القوات عند الحدود، بهدف انتزاع ضمانات أمنية من دون الحاجة للحرب
وعلى الرغم من أن تأثير العقوبات الغربية على روسيا كان واضحا في أنها منعت الرئيس بوتين من المضي قدما في الهجوم العسكري على أوكرانيا في 2014، وقلصت لحد كبير تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة في شرايين الاقتصاد الروسي وفرضت ضغوطا كبيرة على النمو الاقتصادي الروسي، ليبقى عند حدود 3% من إجمالي الناتج المحلي، وفرضت على الحكومة الروسية اتخاذ تدابير وسياسات مالية تقشفية حادة، وكان للعقوبات الفردية على الدائرة المقربة من بوتين الأثر في تقسيم الأثرياء، ومحاولة العديد منهم الخروج من روسيا. إلا أن الرئيس الروسي بوتين يقول لقد طفح الكيل بتمدد الناتو شرقا، ولا يمكن أبدا القبول بانضمام أوكرانيا إلى الناتو. والأزمة السياسية الحادة يتصاعد دخانها العسكري على الحدود بين روسيا وأوكرانيا. ومن جانبها أوضحت الولايات المتحدة والناتو التزامهما المطلق بمساعدة أوكرانيا وسيادتها على أراضيها، وبدء تسليح الجيش الأوكراني بقوة، وهدد الرئيس بايدن مؤخرا الرئيس الروسي بإجراءات لم يسبق لها مثيل، إذا تعرضت أوكرانيا للهجوم، بينما شدد على أن نشر القوات الأمريكية من جانب واحد ليس مطروحا على الطاولة. والغرب يملك أسلحة سياسية واقتصادية بامتياز، يمكنها أن تؤثر بشكل كبير في الاقتصاد الروسي، ويمكنها أن تشله تماما ومن أهمها: أولا إيقاف نظام «السويفت» للتحويلات المالية، الذي تم فرضه على إيران. وثانيا: تجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي التي تقدر بـ 570 مليار دولار. وثالثا: تعطيل خط السيل الشمالي 2 لتصدير الغاز إلى ألمانيا.
ما يقلق روسيا وما دعا الرئيس الروسي في لقاءاته الأخيرة للقول «لقد طفح الكيل» أنه منذ عام 1997 حتى يومنا هذا تم توسع الناتو شرقا باتجاه روسيا، وتم انضمام 12 بلد (استونيا، تشيك، سلوفانيا، مقدونيا الشمالية، لاتفيا، سلوفاكيا، كرواتيا، بلغاريا، لتوانيا، هنغاريا، مونتينغرو، بولندا، رومانيا وألبانيا) وفي عام 2014 ضمت روسيا القرم، وكان لهذا الضم صدى إيجابي في الداخل الروسي، لكن روسيا محبطة من عدم التزام أوكرانيا بمحادثات السلام التي تمت في عام 2015 بخصوص شرق أوكرانيا، وكان الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ قد علق مؤخرا «أن أمر انضمام أوكرانيا للناتو، هو قرار يقرره الأوكرانيون مع 30 دولة في حلف الناتو، وليس لروسيا أي حق للنقض (فيتو) والتدخل في هذه العملية». وأطلق ديمتري كيسليف (الذي يملك الامبراطورية الإعلامية «روسيا اليوم» والخاضع للعقوبات الغربية، والمعروف عنه نقل رسائل الكرملين للجمهور) تهديدا واضحا وهو، أنه في حال ضم أوكرانيا للناتو، فسنكون أمام أزمة صواريخ على غرار الأزمة الكوبية، لكن مع وقت طيران أقصر للصواريخ، لأن روسيا تمتلك أفضل الأسلحة في العالم، التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وقد تصل إلى أمريكا بشكل أسرع من وصول الأسلحة الأمريكية أو البريطانية إلى موسكو». وأضاف، أن من الجيد تحقيق التوازن بين المصالح، لأن روسيا لن تقبل أن توضع في موقف يمكن أن تصلها فيه الصواريخ في غضون أربع دقائق، وروسيا مستعدة لخلق تهديد مماثل، لكنها لا تريد ذلك وإلا سيتحول الجميع إلى رماد مشع.
ما تفعله روسيا اليوم هو الدبلوماسية القسرية المتمثلة بحشد القوات عند الحدود، بهدف انتزاع ضمانات أمنية من دون الحاجة للحرب، لكن هذه السياسة تنطوي على مخاطر عالية. وهذا ما أكد عليه أندريه كوتونوف المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي، وهي مؤسسة فكرية مرتبطة بالسلطات الروسية قائلا: إذا كان الجو ساما للغاية ومليئا بالتوترات والكثير من الأنشطة العسكرية على الأرض، وفي الجو والبحر، فهناك مخاطر بحدوث أخطاء تؤدي إلى نزاع لا يريده المرء حاليا».
وعلى صعيد آخر كانت روسيا تحاول إنشاء تحالف مع الصين، لكن روسيا والصين ليسا شريكين طبيعيين، ولا تربطهما معتقدات ومصالح واحدة، لكن الشراكة والعلاقات ترتكز اليوم على فوائد متبادلة وفردية، في مواجهة الطموح الغربي المتعدي جيوسياسيا وأيديولوجيا. روسيا تدرك تماما خطر نمو التنين الصيني، حيث أن عدد سكان الصين هو عشرة أضعاف روسيا، وكذلك حجم الاقتصاد الصيني اليوم هو عشرة أضعاف الاقتصاد الروسي، والصين متقدمة تكنولوجيا وفي مجال الابتكارات عن روسيا، وكذلك مبادرة الحزام والطريق الصينية، حققت اختراقات عميقة في مجال النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، وهذا ما يجعل الكرملين قلقا من تنامي النفوذ الصيني، وكذلك حاولت روسيا الالتفاف على العقوبات الغربية، بمحاولة التعاون الوثيق مع البنوك الصينية، لكن نظرا لارتباط البنوك الصينية القوي بالبنوك الأمريكية، لم تجد هذه السياسة نفعا.
أمام بايدن اليوم تحد كبير في مواجهة المصالح الروسية الصينية المتلاقية، وستكون مهمته أكبر من الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون، الذي نجح في سبعينيات القرن الماضي في إضعاف الكتلة الشيوعية، بمد يده للصين وتعكير العلاقات الصينية السوفييتية وتوسيع الشقاق بينهما آنذاك.
إن نزع فتيل الحرب والحل للأزمة الأوكرانية، سياسي بامتياز وطاولة المفاوضات ليست مستديرة، بل مستطيلة وعليها الكثير من الملفات والقضايا، بدءا من التهدئة على جبهة أوكرانيا، والضمانات الغربية بعدم توسيع حلف الناتو شرقا، على الأقل على المدى المتوسط، وتفعيل معاهدة الصواريخ المتوسطة، وخط غاز السيل الشمالي والعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، وملفات حقوق الإنسان والمعارضة الروسية، ويمكن أن تكون ملفات الأزمة في سوريا وليبيا وإيران وكازاخستان وجورجيا على طرف الطاولة أو تحتها أيضا.
كاتب عربي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية