من مداليل الأقلمة السردية

انماز السرد العربي القديم بسمات موضوعية وخصائص فنية، هي تأسيسية في تقاليدها وعالمية في تحولاتها، التي ما زالت تأثيراتها جلية في الأدب بوجه عام والسرد بوجه خاص. وما استعادة القص الخرافي في السرديات الخيالية ما بعد الحداثية سوى توكيد لهذه الحقيقة. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن سردنا القديم ما زال بعيداً عن اهتمام منظري السرديات بنوعيها الكلاسيكية وما بعد الكلاسيكية، غير معترفين بأثره ولا مقرّين بأهميته.
وأغلب الدارسين الغربيين المعنيين بالسرديات ما بعد الكلاسيكية والمهتمين بالتنظير لها، يتجنبون التمثيل بأي حكاية أو قصة عربية قديمة، مع أن ما يؤسسون له من طروحات ويجترحونه من مفاهيم يجدونه جلياً وبلا لبس في سردنا القديم. والغالب أنهم إذا أرادوا أن يمثّلوا على السرد الكلاسيكي فلا يمثلون سوى بسرديات العصور الوسطى مثل الديكامرون لبوكاشيو ودونكيشوت لسرفانتس، التي أخذت تقاليدها أصلاً من سردنا القديم. وكثيرا ما يمثلون بروايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وقد يمثلون بمرويات من الأدبين الإغريقي والروماني.
وهو ما يتطلب وقفة جادة أولا في تفسير دور العقل في ابتداع السرد، وثانيا في التمثيل على هذا الدور بنماذج من سردنا العربي القديم، الذي غدت له في العصور القروسطية مكتبة أدبية هي الأعظم عالميا، وفيها نفائس حكائية وذخائر تاريخية أثرت تأثيراً كبيراً في آداب الأمم المجاورة، لاسيما ما تسرب عبر صقلية إلى أوروبا من مخطوطات عربية كثيرة وتمت ترجمة أكثرها إلى اللغات الأخرى. وهو ما تكشفه أبسط عملية اختبار وبرهنة تقارن بين ما كُتب من سرديات في العصر اللاتيني الوسيط وعصر النهضة، بدءا من الكوميديا الإلهية وانتهاء بالمسرحيات الكلاسيكية، وبين ما أشاعه السرد العربي القديم من تقاليد فنية ومفاهيم نقدية لها صلة بالنثر والتلقي والمحاكاة والتمثيل والتخييل وغيرها.
وما نشهده اليوم من ثورة تواصلية هائلة إنما يدلل على انتهاء زمانية الدراسات المقارنة، بعد أن انفتحت الحدود بين الآداب والفنون وساهمت طروحات ما بعد الحداثة وأدبيات فلسفاتها ما بعد الكولونيالية في مد جسور التفاعل بين الآداب العالمية التي معها انتعشت مفاهيم الانفتاح والتعدد والتداخل، وغدا ممكناً دراسة العقل المعرفي جنباً إلى جنب مع دراسة التخييل الأدبي تحت مظلة كبيرة عنوانها تداخل التخصصات وعبور حدود الثقافات بالتعدد والتحاور والتنوع. وقد ساهم في تعميق ذلك كله ما تشهده مجالات العلوم الصرفة والمعرفيات الرقمية وتكنولوجيا الذكاء الصناعي، من أتمتة ودمقرطة وتجسير وأقلمة بين الآداب والعلوم كنظريات ومفاهيم وممارسات. وإذا كانت الدراسات النقدية في الغرب تشهد اليوم مزيداً من النظريات السردية ما بعد الحداثية، التي توضع تحت باب علم جديد هو (علم السرد ما بعد الكلاسيكي) فإنها في الحقيقة تفتح المجال مشرعا لأقلمة سردنا القديم نقدياً عبر الإفادة من طروحات تلك النظريات في توكيد ما في هذا السرد من تقاليد تشكل بمجموعها نظرية عربية في السرد غير الواقعي.

وليس غريبا أن يطال هذه التقاليد أو بعضها، التغييب وتصادر فاعليتها البنائية والجمالية من لدن دارسين غربيين وغير غربيين، ما لم يتم الكشف عن حقيقتها والتعريف بها اليوم أو غداً. والأقلمة هي السبيل إلى هذا الكشف والتعريف، وليست الأقلمة منهجية مقارنة تريد إعادة الاعتبار لسردنا القديم من خلال مقارنته بنظير أو مثيل، ولا هي فاعلية تقليدية تشبيهية تريد مضاهاة سردنا بسرد الآخر؛ وإنما الأقلمة فاعلية ثقافية، تبحث في الأساسات والأصول، وغايتها تحديد التقاليد ومعالجة الخصوصيات والعموميات معا، ومركزة المهمش منها وربط الأطراف بالأقطاب. وبالشكل الذي يسمح بوضع نظرية فيها من المفاهيم والتصورات التجريدية ما يحفظ لسردنا هويته ويدلل على إنجازاته وفي الآن نفسه يصب في صالح السردية العالمية. وبذلك تكون الأقلمة بمثابة الفرصة النقدية التي تضيف إلى علم السرد ما بعد الكلاسيكي والسرد غير الطبيعي مزيدا من التمثيلات وتدعمهما بالأساسات التي فيها من العناصر والعوامل والإجراءات ما يعمِّق الأبعاد النظرية، ويدعّم التوصلات العلمية، ويجعل الآداب في حالة تماس مباشر مع بعضها بعضاً، تاريخياً وجغرافياً وفكرياً.

لا مراء في أن النقد العربي قادر على أن يساهم في الكشف عن غنى تراثنا السردي والشعري، وما يحفل به من أمثلة تاريخية وشعبية، كان لها دورها في نهضة السرد بمعناه الحديث في أوروبا وأمريكا اللاتينية.

وواحدة من النظريات التي تخدم عملية الأقلمة النقدية بين سردنا القديم والسرد العالمي هي، نظرية )علم السرد غير الطبيعي( المطروحة اليوم من لدن منظري المدرسة الأنكلوأمريكية، وهدفهم علمنة السرد كفاعلية إبداعية وأقلمة الآداب جمعاً بين المعرفي والأدبي والسردي والتاريخي في ظل مناخ ثقافي ما بعدي وبمنهجية منفتحة وتعددية.
وما جذب انتباه هؤلاء المنظرين نحو وضع نظرية في (علم السرد غير الطبيعي) يتمثل في أمرين: الأول ما شهدته السرديات الكلاسيكية في عصر النهضة وما بعدها من تأثر واضح بالاستكشافات العلمية كالنسبية والرادار والذرة، فتقلص المنحى الواقعي في التعبير عن العالم الموضوعي. والأمر الثاني حلول الألفية الثالثة التي معها استعادت السرديات ما بعد الحداثية بعض الصيغ اللاواقعية التي عرفتها السرديات الكلاسيكية، فوظفتها في قصص الخيال العلمي وقصص الرعب وغيرها. وساهم عصر التحولات الرقمية وعلوم الفضاء في مد هذه السرديات بكل ما هو غير معقول ولا ممكن، وبهذا الشكل عاد إلى الواجهة ما كان غائراً وبعيداً في سرديات العالم القديم. صحيح أن السرد الحداثي عَرف العجائبية والغرائبية، لكن العجيب والغريب ظلا يخضعان لنظام المحاكاة الأرسطية في إطار عقلاني، فيه يكون الغموض والإيهام وسائل في التعبير عن الغاية التي هي الواقع، بينما تعد هذه الوسائل أهدافا في السرد غير الطبيعي، ويكون الفعل غير المعقول واللاعقلاني متحققاً بالعجيب والغريب أو دونهما.

أي أن الأساس في تحقيق غائية السرد غير الطبيعي هو التضاد مع المحاكاة أو ضد المحاكاة التي فيها يكون الواقع الموضوعي لا واقعياً. واهتمام النقاد بالتنظير للسرديات غير الطبيعية يأتي من العناصر غير الطبيعية التي تحويها هذه السرديات فتدعونا إلى استعادة مرويات أنتجها العقل البشري، وفيها تمكّن الحكاء الأول من التعبير عن الواقع بعقل فكّر بخيالية في الوجود المرئي، فرأى وجوداً آخر غير مرئيّ، فيه مخلوقات عجيبة مع كثير من الأحداث الغريبة والصور المختلفة والمختلقة التي تحاكي ما هو غير محاكى، لكن ضمن قانون الاحتمال الأرسطي نفسه.
ولم يركز منظرو السرد غير الطبيعي ـ في إطار استعادة التفكير الخيالي ـ على الحكايات الخرافية والقصصية، التي عرفتها الأقوام السامية وعرفها العرب في ما قبل الإسلام. والكثير مما هو مهمش يحوي نماذج مهمة تدلل على اللاعقلانية في السرد غير الواقعي. والسؤال هنا: ما الذي يحمل هؤلاء النقاد والمفكرين على وضع نظرية في السرد غير الطبيعي، بينما هم لا يولون اهتماماً للنماذج السردية القديمة التي حفلت باللاعقلانية غير الواقعية وأعني الخرافات والأساطير، وما أنبنى عليها من شعر ملحمي، بل يقفزون في تمثيلاتهم إلى الحكايات الأوروبية ويتغاضون عن ذكر المرويات التراثية العربية؟
لا مراء في أن النقد العربي قادر على أن يساهم في الكشف عن غنى تراثنا السردي والشعري، وما يحفل به من أمثلة تاريخية وشعبية، كان لها دورها في نهضة السرد بمعناه الحديث في أوروبا وأمريكا اللاتينية. ولا شك في أن الثقة بمستقبل الفكر الإنساني تغدو كبيرة ومؤكدة حين لا تتعرض ثقافة أمة ما للتغييب على حساب قطبية ثقافة أخرى. والسرد غير الطبيعي نظرية أوجدها المدّ العولمي وهو نفسه الذي يفرض ضرورات توسيع نطاقها وبالشكل الذي يسمح بتفاعل الآداب تفاعلاً لا اتكاء فيه على السرد الغربي كما لا تابعية تجعلنا ننتظر من الآخر نظرياته دون أن نعمل على الإسهام في صياغتها، وهو ما كان الرعيل الأول من النقاد العرب قد فعلوه حين هضموا مناهج الغرب وأفادوا منها في إحياء النقد القديم، مساهمين بذلك في وضع أساسات نقدنا العربي الحديث.

كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمر البعلبكي - بيروت الجريحة:

    “والغالب أنهم إذا أرادوا أن يمثّلوا على السرد الكلاسيكي فلا يمثلون سوى بسرديات العصور الوسطى مثل الديكامرون لبوكاشيو ودونكيشوت لسرفانتس،” ،،،،، اه
    حقيقةً، بوكاشيو ممكنٌ اعتباره منتميا إلى أواخر العصور الوسطى، في هذا السياق الزمني، لأنه عاش ومات في القرن الرابع عشر تحديدا.. أما سرفانتس، في هذه الحال، فلا يمكن اعتباره منتميا كذلك على الإطلاق لأن حياته امتدت ما بين النصف الثاني من القرن السادس عشر والربع الأول من القرن السابع عشر – وهيهات أن يُقال عن هكذا زمان بأنه منتمٍ إلى العصور الوسطى بأية هيئة من الهيئات ،،،،، !!

  2. يقول الرَّائِي:

    أرى هنا نظرة عنصرية استعلائية من خلال تنقية نماذج سردنا القديم إلى حد التأليه
    إذا كان أدباء الغرب في العصر الوسيط وفيما بعده قد أخذوا عن سردنا القديم هذا
    فإن سردنا القديم بالتأكيد قد أخذ بدوره هو الآخر عن سرد أقدم قد سبقه بزمان مديد !!

    1. يقول عاقولة العاقولي:

      اليس غريبا ان تعد الدعوة الى كشف اهمية موروث امة من الامم وبيان تأثيراته في الفكر الانساني دعوة عنصرية!!ان العكس هو الصحيح تماما ؛اي ان غمط اي ارث انساني حقه من الاهمية والتنكر لمفاضله ومآثره هو العنصرية باجلى صورها ,واليس غريبا ايضا ان ندعو الى الاقرار باهمية مروث غابر ونستهجن الاشارة الى موروث قريب لا تفصله عن حضارتنا مدد سحيقة بل تاخمها وجاورها ونهلت منه مباشرة ولاصقته ملاصقة الرضيع لثدي الام !!ثم اقرار فضل موروث امة ما لايستدعي نكران امة اخرى ؛من ينكر اثر السرود في العصور السحيقة في السرد الحديث؟الخرافة والاسطورة وحكايات الخيال,ومن متابعتنا الدائمة لجهود الباحثة المرموقة نادية هناوي لم نجدها قد تجاهلت هذا الموضوع بل بالعكس فصلت فيه بما يستحق وما يوجبه البحث العلمي الرصين الذي تتصف بها كل دراساتها ’ثم ان تأثير الموروث السردي العربي واضح المعالم والصوى في السرد الغربي الحديث بالاسماء والتواريخ والاعمال

    2. يقول للتذكير:

      لا وقت للبحر كي يقيم حوارا مع الزبد فالبحر منهمك على الدوام بتأليف الموج !!

إشترك في قائمتنا البريدية