من معبر أبو الزندين إلى مدينة قيصري

حجم الخط
0

فجأةً قرر المجلس المحلي لمدينة الباب، شرقي حلب، افتتاح معبر أبو الزندين التجاري الذي يربط بين مناطق سيطرة نظام الأسد ومناطق سيطرة الفصائل المعارضة الموالية لتركيا.
وفجأةً خرج الرئيس التركي أردوغان من جامع الإمام علي في أوسكودار بإسطنبول حيث أدى صلاة الجمعة وأدلى بتصريحات لافتة حول سياسته السورية الجديدة فقال إنه لا شيء يمنع من عودة العلاقات مع سوريا كما كانت في السابق بما في ذلك البعد العائلي للعلاقات بينه وبين بشار الأسد.
وفجأةً وصل وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا إلى مدينة غازي عنتاب ليشرف بنفسه على حملة «مكافحة الهجرة غير الشرعية» كما أطلق على حملة إرغام سوريين على «العودة الطوعية» إلى الأراضي السورية.
وفجأةً قام سوري بالتحرش الجنسي بطفلة سيتضح لاحقاً أنها قريبته، في مدينة قيصري وسط الأناضول، لتكون هذه الحادثة فتيلاً يشعل نار حملة عنصرية جديدة تستهدف السوريين وممتلكاتهم في المدينة، سرعان ما امتدت إلى مدن تركية أخرى كغازي عنتاب ونزب والريحانية وأنطاليا وإزمير وإسطنبول.
وفجأةً خرجت مظاهرات غاضبة لسوريين في مناطق سيطرة القوات التركية شمال سوريا، الباب وإعزاز وعفرين وجرابلس وغيرها، ضد تركيا وانعطافتها السياسية المحتملة في اتجاه التطبيع مع نظام الأسد، واحتجاجاً على الاعتداءات على اللاجئين السوريين في المدن التركية.
كل هذه الأحداث «المفاجئة» للوهلة الأولى لا يمكن فصلها بعضها عن بعض، فهي مترابطة وبعضها ردود أفعال على بعضها الآخر، في تكامل ينذر بتحولات كبيرة في المشهد السياسي السوري، بعد سنوات من استنقاع القضية السورية في كواليس الأمم المتحدة كما فيما بين الدول المنخرطة في الصراع على الأرض السورية. ويبدو تغير لهجة الرئيس التركي تجاه نظام الأسد هو الحدث الأبرز الذي طرح الكثير من التساؤلات حول دوافعه وحول آفاق التطبيع المحتمل بين الأسد وأردوغان.
فعلى رغم أنه ليس التصريح الأول للرئيس التركي بشأن استعداده لتطبيع العلاقات مع نظام دمشق، لكنه الأكثر «دفئاً» تجاهه، بعد سنوات من القطيعة والحرب الكلامية والتدخل العسكري ورعاية الفصائل المعارضة، وبالمقابل الأكثر صدماً للمعارضة السورية المتحالفة مع أنقرة. فهو يعيد إلى الأذهان سنوات شهر العسل بين الطرفين والزيارات العائلية المتبادلة بين الرئيسين في الفترة التي سبقت اندلاع ثورة السوريين ضد النظام في ربيع العام 2011. «الأمس هو الأمس، واليوم هو اليوم» هذه العبارة المنسوبة إلى الرئيس التركي الراحل سليمان دميريل الذي طبع السياسة التركية بطابعه طوال أكثر من عقدين، تلخص فكرة أنه لا ثوابت في السياسة، ولا شيء يمنع من انقلاب أعداء الأمس إلى حلفاء أو حلفاء الأمس إلى أعداء.

يبدو تغير لهجة الرئيس التركي تجاه نظام الأسد هو الحدث الأبرز الذي طرح الكثير من التساؤلات حول دوافعه وحول آفاق التطبيع المحتمل بين الأسد وأردوغان

وقد قطع أردوغان شوطاً كبيراً في إعادة ترميم علاقاته التي تدهورت، في سنوات الربيع العربي، مع كل من السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل في السنوات القليلة الماضية، وكانت موسكو تضغط في اتجاه تطبيع العلاقات بين أنقرة ونظام دمشق، في السنتين الأخيرتين، ولولا تعامل الأسد البارد مع هذا المشروع لحدث لقاء بينه وبين أردوغان قبل أكثر من عام.
وزاد أردوغان في تصريحه من جرعة الحوافز حين أضاف قائلاً إن تركيا لا تريد التدخل في الشؤون الداخلية السورية، في استجابة مسبقة لأحد شرطي الأسد وهو المتمثل بوجوب أن تتوقف تركيا عن دعم ما يصفه بالمنظمات الإرهابية.
أما الشرط الثاني للأسد فكان يتمثل في وجوب انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، فلم يتطرق إليه أردوغان في تصريح ما بعد صلاة الجمعة، ذلك أن لتلك القوات مهمة داخل الأراضي السورية، وفقاً للسياسة الرسمية المعلنة، هي التصدي لقوات سوريا الديمقراطية، وبخاصة في هذه الفترة التي تستعد فيها «الإدارة الذاتية» لإجراء انتخاباتها المحلية الجديدة في الشهر القادم. وعلى أي حال فالعرض التركي لنظام الأسد هو إقامة تعاون بين عدوي الأمس لمواجهة هذا الخطر، في نوع من استعادة تعاون قديم بينهما ضد حزب العمال الكردستاني تكرس في اتفاق أضنة في العام 1998 الذي نص على شرعية تدخل القوات التركية في الأراضي السورية بعمق خمسة كيلومترات لملاحقة عناصر المنظمة التي تعتبرها تركيا إرهابية وتهدد أمنها القومي.
مشروع التطبيع هذا الذي كان قد دخل الثلاجة بفعل ممانعة إيرانية على الأرجح، ما الذي أعاده فجأة إلى واجهة الأحداث وبهذا الزخم؟ يمكن الحديث عن عوامل كثيرة لعبت دوراً في ذلك، تبرز من بينها نتائج الانتخابات المحلية التي شكلت نوعاً من جرس إنذار لسلطة أردوغان بانقلاب الموازين السياسية لغير صالحه. الأمر الذي دفعه إلى القبول بالانفتاح على حزب المعارضة الرئيسي، الشعب الجمهوري، وبدء حوار إيجابي مع زعيمه أوزغور أوزال. وأدى هذا الانفتاح بدوره إلى توتر خفي بين أردوغان وحليفه في تحالف الجمهور دولت بهجلي الذي صدرت منه عدة إشارات تعبر عن استيائه من تلك التطورات، مضافاً إليها قضية سنان آتيش التي بدأت أولى جلساتها في الأول من تموز، وتهدد بوصول الاتهامات فيها إلى مراتب قيادية في حزب بهجلي.
ثمة من يربطون بين الحملات الغوغائية التي استهدفت السوريين في قيصري والمدن الأخرى وبين التوتر بين الحليفين في تحالف الجمهور، لا يتسع المقام هنا للتوسع في هذا الربط. وعلى أي حال ثمة تراكم للمشاعر المعادية لوجود السوريين على الأرضي التركية طوال السنوات الماضية، عززتها تصريحات صناع الرأي وقادة الأحزاب الذين يجمعون تقريباً على وجوب إعادة السوريين إلى بلدهم، كما كانت حملة وزارة الداخلية وإدارة الهجرة لرحيل آلاف السوريين تحت يافطة «العودة الطوعية» مما شجع على اندلاع الاعتداءات على السوريين.
وثمة من يعتبرون أن وراء التقارب الجديد المحتمل بين أنقرة ودمشق أسباب اقتصادية قاهرة، وربما شكل فتح معبر أبو الزندين أهم مكسب ترجوه أنقرة من هذا التقارب، فاستئناف حركة التجارة عبره سيتيح للشاحنات التركية المحملة بالبضائع أن تعبر الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام في اتجاه الأردن ومنها إلى دول الخليج العربي، في الوقت الذي لم يثمر فيه البرنامج الاقتصادي الجديد للحكومة إلا نتائج متواضعة بعد مرور عام على تطبيقه.
كان المفاجئ أكثر من غيره هو حملة الاحتجاجات ضد تركيا في المناطق الخاضعة لسيطرتها في شمال سوريا، الأمر الذي يشير إلى خوف حقيقي لدى الفصائل الموالية لأنقرة كما لدى السكان من أن «تبيعهم» تركيا لنظام الأسد. صحيح أن الضغوط نجحت مؤقتاً في وقف تلك الاحتجاجات، لكن العبرة باتت واضحة: لن تستطيع تركيا أن تستدير 180 درجة في سياستها السورية بلا ثمن.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية