اعتبر رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنّ مقتل عشرات الإسرائيليين خلال الاحتفال الديني على جبل الجرمق «كارثة كبرى»، وأعلن أنه «حزين» و»يصلي من أجل الجرحى»؛ متناسياً أنّ أجهزة الشرطة في الحكومة التي يقودها مسؤولة، مباشرة، عن الواقعة لأنها سمحت لـ100 ألف متدين يهودي بالمشاركة في شعائر لا تستوعب بنيتها التحتية أكثر من 10 آلاف. هي أجهزة شرطة الحكومة ذاتها التي تناسى نتنياهو، أيضاً، أنها منعت الفلسطينيين من إحياء شعائر دينية، أبسط بكثير، في باحات المسجد الأقصى وفي كنيسة القيامة، غير مفرّقة بين مسلم ومسيحي؛ وبعض قتلى الجرمق كانوا، كما للمرء أن يتكهن، في عداد الغلاة الإسرائيليين الذين احتشدوا في باب العمود ومحيط الأقصى، وهتفوا: «الموت للعرب».
التدافع القاتل على جبل الجرمق لم يكشف زيف ادعاءات الاحتلال بأنّ إجراءات التباعد الخاصة بكوفيد – 19 هي التي كانت وراء إجراءات الحظر والتنكيل في القدس المحتلة، ثمّ في كنيسة القيامة لاحقاً، فحسب؛ بل أضاف دليلاً جديداً حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه نتنياهو في مجاراة التيارات الدينية المتشددة، والرضوخ لمطالبها، حتى إذا كانت تهدد السلامة العامة لأنصار تلك التيارات أنفسهم. والدليل ذاته يصلح مؤشراً إضافياً على اتساع نطاق انحسار «دولة القانون» التي تفاخر بها الصهاينة على مرّ العقود، واتكأ عليها أصدقاء دولة الاحتلال لترويج خرافة «الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط. إذْ من الواضح أنّ إرادة منظّمي حجّ عشرات الآلاف من المتدينين الإسرائيليين إلى قبر الحاخام شمعون بار يوحاي (توفي سنة 135 للميلاد)، خرقت القانون وخالفت تعليمات الشرطة.
صحيح، بالطبع، أنّ القدس تحظى بمكانة مركزية، سياسية وتاريخية وروحية ورمزية، في الصراع العربي – الإسرائيلي عموماً والشطر الفلسطيني منه خصوصاً؛ وأنّ هبّة المدينة، في محيط الأقصى وكذلك كنيسة القيامة بالأمس، تعكس رصيد مقاومة شعبياً ونضالياً متميز الأبعاد والدلالات، ويخصّ انحطاط الكيان الصهيوني نحو مزيد من العنصرية والتمييز لجهة القانون العام. ولكن ليس أقلّ صحة، ضمن السياقات ذاتها، أنّ مظاهر انحطاط مماثلة تشمل مدينة مثل يافا وبلدة مثل أم الفحم، وسواهما العشرات من المدن والبلدات والقرى في المثلث والجليل؛ وذرائع الاحتلال في قهر الفلسطينيين تتعدد وتتنوّع، لكنها غالباً لا تكترث حتى بتلفيق ورقة التين الشهيرة.
وكانت تظاهرات المتطرفين الإسرائيليين، خاصة أنصار منظمة «ليهافا»، الإرهابية التي تُنذر باللهيب ابتداء من معنى اسمها، قد أظهرت عودة قوية لأفكار الحاخام مئير كاهانا، التي تصنفها الخارجية الأمريكية في خانة الحركات الإرهابية؛ الأمر الذي يتجاوز انتعاش العنصرية والتطرف والغلوّ، ليشمل هجاء الصهيونية ذاتها، واعتبارها فلسفة نكراء غريبة عن اليهودية الحقة. وكانت الكاهانية بمثابة الانصهار الأقصى بين «النبيّ» التلمودي المتطرف متجسداً في شخص الحاخام كاهانا، و»الملك» رئيس الحكومة المتطرف مناحيم بيغن، متضافراً مع التوازي الفريد بين الاختراق العمودي للكفاحية اليهودية القومية الصرفة والنزوعات القيامية الخلاصية.
لكنّ كاهانا كان قد عبر العتبة الأخطر وكسر أكبر المحرمات، في إبطاله محبّة اليهودي لأخيه اليهودي، كائناً مّنْ كان؛ فدعا إلى مجابهة شاملة لا تُبقي ولا تذر مع «اليهود الهيللينيين»، وقصد أولئك الذين نقلوا الثقافة الغربية إلى التوراة، وجلبوا أوبئة الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية. وفي كتابه الأشهر «أربعون عاماً» كتب يقول: «هذه بلاد تنغل بالهيللينية، وبالغوييم الذين لا يجمعهم بالدين سوى النطق بالعبرية، والذين تتضخم عندهم نزعة الأنا إلى حدّ الدوس على الهيكل ونسف الديانة. الهيللينيون يسرحون ويمرحون في أرض الربّ؛ وحين انفصلت اليهودية عن الصهيونية، باتت هذه الأخيرة مجرد شكل من النزعة القومية الكريهة. اليهودي ضدّ الهيلليني، هذه هي المعركة الحقيقية الوحيدة».
وهي معركة مفتوحة وفي اشتداد، وليس اتصال جبل الجرمق بباب العمود سوى الوجه الآخر لاصطباغ أحزان نتنياهو بتعاليم كاهانا، حيث العنصرية والإرهاب والتطرف قواسم مشتركة.