يبدو أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أيقظ من جديد العالم حول حقيقة الديمقراطية الأمريكية، ويحسب له أنه ربما الرئيس الوحيد الذي كشف طبيعة السياسة الأمريكية، من خلال خطاب يجاهر بكل ما كان يتم في الغرف المغلقة، أو من خلال الدبلوماسية السرية. ولكنه بتحريضه المعلن لأنصاره، دق الإسفين الأخير في طموحاته السياسية، وقضى على فرص نجاحه في أي منافسة انتخابية مقبلة.
وهذا الرئيس الذي أحيا من جديد خلال فترة حكمه نظام جيم كرو، وهو الاسم الذي باتت تعرف به النسخة الأمريكية من نظام الفصل العنصري. لعلّه كشف أيضا حدة الانقسام الذي يمكن أن يصيب مجتمعا ما، في غياب الحكمة السياسية وانحراف السلطة. من حاصل أنه في غياب النظام السياسي المتّزن يمكن أن تنمو نوازع الإقصاء والتمييز، وتطفو إلى السطح كل أمراض المجتمع الدفينة والراكدة. ومن الطبيعي أن يستغرب البعض كيف تُقمع المسيرة السلمية لحركة» حياة السود مهمة «التي كانت على بعد أميال من مبنى الكونغرس، في حين يحدث التهاون مع المجموعات المتطرفة من البيض، ويصل الأمر إلى احتلال مجلس النواب، ورفع شعارات الحرب الأهلية الأمريكية. في نوع من العودة إلى ممارسات ثقافية بالية وتقليدية بدائية عفى عليها الدهر. ومثل هذا السلوك العنصري الذي عزّزه رئيس مهزوم يرفض الاعتراف بخسارته، جسّد نوعا من» الارتجاعية الثقافية «التي اعتبرها مير دالوي في يوم ما، أحد مخلفات زمن قديم، أو سمة دخيلة من مكان آخر ذات حياة قصيرة، عوضا عن أن تكون طويلة، على اعتبار أنّ هناك من سلّم بحقيقة العنصرية في فترة محددة باعتبارها عُرفا اجتماعيا.
المسألة العرقية والفصل والتمييز داخل أمريكا تطبّقه إسرائيل بنسخه الهجينة والمتطرفة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويتم فرضه بأسلحة أمريكية. وما برحت الولايات المتحدة مستمرة في سدّ الطريق حتى اليوم أمام تسوية سياسية، فضلا عن أن الحكومة الأمريكية ما فتئت ترفض السماح حتى بالإجراءات الأولية لتخفيض مستوى العنف والاستيطان والعنصرية. ولم يتمكّنوا من أن يكونوا منسجمين مع ما يستعملونه من مصطلحات من قبيل الحرب على الإرهاب والديمقراطية وحقوق الإنسان. ويدركون بأن لغة العدوان مولّدة للأحقاد والكراهية ولردود فعل سيئة بالشرق الأوسط، ويعلمون بأنهم مكروهون بما فيه الكفاية. ومع ذلك لا يعزمون على إخراج أنفسهم من أي تورط في هذا النزاع، أو يدفعون باتجاه حوار حقيقي من شأنه أن يرسي بوادر الثقة. والإرهاب في النهاية هو استعمال الرعب الناجم عن عمل عنيف، لأغراض سياسية، وما حصل في واشنطن لا يخرج عن هذا التعريف، ووُصف بأنه حركة إرهاب محلية. وليس التهديد الأول، ولن يكون الأخير الذي يواجه الديمقراطية الأمريكية. ففي أوائل ستينيات القرن العشرين وضع رئيس الأركان الأمريكي ليمان ليمنيتسر خطته المسماة نورث وودز، والقاضية بأن تُشنّ هجمات إرهابية، وتجري عمليات اغتيال للكثير من المدنيين في شوارع المدن الأمريكية، بغية كسب تأييد المواطنين الأمريكيين غزو كوبا. وعُدّ ذلك بمثابة التهديد العظيم للديمقراطية. وكان الكشف عن هذه الخطة سببا في اجبار ليمنيتسر على تقديم استقالته. إلّا أنّ الاعتقاد بأن الإدارة الأمريكية لا تختلق التهديدات والمخاطر فحسب، بل تقوم بهجمات على مواطنيها أيضا، قد عزّز منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الكثير من النظريات التي تؤكد أن الحكومة الأمريكية نفسها تآمرت على شعبها. وما يجري لا يمكن عزله عن أزمة المنظومة السياسية داخل أمريكا، التي كشفت في العقود الأخيرة عن تصدّع القيم الأخلاقية والسياسية والإنسانية، وباتت ظاهرة تدعو إلى الاشمئزاز في أوساط النخبة في الولايات المتحدة. ومراجعة السجل التاريخي لهذه الدولة وتدخلاتها الخارجية، تحت مبررات الأسباب الإنسانية تُظهر ذلك الدور السيئ والذميم لسياسة واشنطن الخارجية «الشيطانية على مدى التاريخ» بتعبير تشومسكي. وهي التي استنفدت طاقتها خارج حدودها، واستمر نمط سياستها بدون تغيير. وما قامت به في الثمانينيات من حملات تدمير في أمريكا الوسطى، لقهر التنظيمات الشعبية التي هدّدت بخلق قاعدة لتوظيف الديمقراطية، بما يسمح لشعوب منطقتها بتحقيق درجة من درجات السيادة والحكم الذاتي، يؤكد حقيقة العنف الإمبريالي الأمريكي الذي تواصل أثناء حرب الخليج وبدايات الألفية الثالثة في أفغانستان والعراق. وكلها مسارات تكشف احترام أمريكا البالغ لحقوق الإنسان واستقلالية الدول وتماسك بُناها القومية.
قرارات عشوائية، تصدر عن إدارة مرتبكة تواصل في آخر أيامها محاصرة الشعوب، وتجويعها، وتزيد من إشعال نزيف الحرب
التقدير الزائف ينشأ جرّاء هستيريا نشرت ظلالها كوباء، أعمى النخب عن السعي لتحقيق أهدافها، بأساليب تتّفق مع العقل وتنسجم والمنطق السليم. وإعادة وضع كوبا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، إضافة إلى التوجه نحو تصنيف حركة أنصار الله اليمنية منظمة إرهابية، وتسليط عقوبات اقتصادية قاسية على أكثر من بلد، هي بمثابة قرارات عشوائية، تصدر عن إدارة مرتبكة مصابة بالهذيان، تواصل في آخر أيامها محاصرة الشعوب، وتجويعها، وتزيد من إشعال نزيف الحرب. وتضع تركة سياسية ملغومة في طريق الإدارة الديمقراطية المقبلة، التي ستكون مهمتها صعبة في ما يخصّ الملفات الداخلية والخارجية. ولهذا يُجمع الكثير من المسؤولين والسياسيين الأمريكيين على أن بقاء ترامب في السلطة، وإن كان لأيام معدودة يشكل خطرا على أمريكا، ويمكن أن يحدث أضرارا غير متوقعة. وإثارة الرئيس فكرة إصدار عفو عن نفسه، لم يستسغه حتى مستشارون داخل البيت الأبيض، وسيكون أول رئيس أمريكي تُوجه له تهم لمرتين متتاليتين، في سياق محاكمته في مجلس الشيوخ، بسبب أحداث الهجوم على مبنى الكابيتول رمز السياسة الأمريكية. وثمة اعتقاد بأن القرارات الشخصية التي اتخذها الرئيس الأمريكي تماشيا، والتأثير الذي مارسه عليه مستشاروه، واستجابته للتوجهات الأيديولوجية التي ينادي بها هؤلاء المستشارون هي شبيهة بما حدث زمن فترة حكم بوش الابن. والصور الصادمة التي تابعها العالم تكشف عن المرض النفسي المخيم على الإدارة المهزومة. وهو ما يلحقها بذاك السياق الذي حاول المخرج السينمائي مايكل مور من خلال أفلامه، أن ينقد السياسة الأمريكية، ويبيّن للرأي العام أن بوش الابن ومستشاريه يعانون مرضا نفسيا. ويبدو أن ما كانت تمليه أهداف اليمين المحافظ منذ الثمانينيات قد راكمت خيباتها، وتعززت بوصول الشعبوية الترامبية إلى البيت الأبيض. وجميعها أفضت إلى تمزقات كبيرة في السياسة والمجتمع، تحتاج إلى قدر من العقلانية السياسية، ليس من البديهي أن تتوفر بالحجم الكافي لدى الإدارة المنتخبة، التي تضم عددا لا بأس به من السياسيين، والبيروقراطيين القدامى، وإن كان هناك مؤشر على تحوّل في الخطاب، ننتظر لنرى هل سيُترجم على أرض الواقع.
كاتب تونسي