توفي وليد معماري في خواتيم عام 2021، وهي مرحلة محيرة وغامضة من تاريخ العرب الحديث، فقد اختلطت فيها الأوراق ولم يعد من الممكن أن تفصل الجو المدني المتحضر عن الريفي القروسطي، بسبب عودة الأيديولوجيات الميتة، وسقوط دولة العسكر بكل ما كانت تمثله من هيبة وخوف ورعب. وربما هذا هو سبب الهزيمة المخزية التي منينا بها عام 1967، وتكلم عنها وليد معماري في ثاني أعماله المهمة وهي قصص مجموعته «اشتياق لأجل مدينة مسافرة» 1976.
الذاكرة الحديثة
لقد تحولت الذاكرة الحديثة، في رؤية معماري، لأنقاض يخيم عليها الأسف والندم، لكن مع قليل من الاعتداد المجاني بالذات. ولم يتأخر معماري عن الإشارة للجانب المنهوب من مفهومنا عن الافتخار والاعتزاز، فقد أصبح عبارة عن قبعة أجنبية يحملها رأسنا العربي ليموه على نفسه. ومن هذه النقطة ولد أول تحول في أسلوب معماري باتجاه «لكوميديا السوداء» أفضل طريقة يلجأ لها الإنسان الضعيف ليهرب من مواجهة نفسه، ولينفصل عنها دون أن يغير موقعه الحقيقي والمؤلم. ويبدو لي أن خط تطور وليد معماري كان موبوءا (بالمعنى الإيجابي للكلمة) بالتحول. فهو لم يستقر على شكل ولا على محتوى. ولعب بكل الأدوات الممكنة، من الحداثة الملتزمة وحتى الواقعية الساخرة مرورا بما فوق الكتابة (الميتا قصة أو السايبر سرد). غير أنه بقي مخلصا لموضوعه، وهو أحوال الذات ومواجعها، وبتعبير كاتب عراقي صاعد هو قصي الشيخ عسكر، في تحليله لقصص علي القاسمي، بعض الأفكار تفرض تجسيدات عملياتية تربط الراوي بخياله، وتحول عالمه لمجموعة سائلة من التجريدات، حتى يخيل إليك أنه يعيد تركيب نفسه وماضيه وبإطار سيري وحقيقي. لكن وليد معماري لم يكتب سيرته الشخصية، بل سيرة ذات مجتمعه. وباعتبار أنه ظهر في وسط السبعينيات، ولأنه مخلص لقانون عصره، فقد استعار من جيله أدواته الانقلابية، ومضمونه الراكد والهادئ والاستسلامي.
بالنسبة للأسلوب، اعتمد على تجزيء الحدث، وتحويل الحبكة إلى مادة كامنة، أو عصاب صامت، أو وعي باطن مفتوح. وهذه أقسى عقوبة يمكن أن يتوقعها أي كائن أوديبي مكبل بقيود الظلام البارد. فقد كتب على وعينا الشقي بالمأساة، أن لا نعبر عنه مباشرة، وإنما أن نحيده، وأن نسمح له بكشف عورته. واستعمل جيل السبعينيات عدة طرق لتحقيق هذه الغاية، وكان في مقدمتها تخريب وحدة الوعي الباطن، وتحويله إلى رموز منفصلة، بعضها استشراقي، وبقيتها اغترابية. وهكذا احتدم الصراع بين عدة مكونات، وهي لغة الأب ولغة الأم (بمفردات عراب التحليل النفسي العربي مصطفى صفوان). وباعتقادي مثل هذه البنية فرضت على دراما الحبكة أن تكشف ظهرها، لأم شرسة سليطة اللسان، وكارهة لأحضانها – قيمتها المادية. وكان عليها للتعويض عن هذا المقت، وبدافع من غريزة الأمومة، أن تقبل بابن تكنولوجي، وأن تتخلى عن حق الحضانة لأم صناعية. وهكذا بدأ مشوار الحداثة الملتزم. وغني عن الذكر أن أي مخاض سياسي وعقائدي يجب أن يمر يسبقه هذا التحول. وأوضح مثال هو جيل القصص الساخرة في روسيا، الذي بشر بالبروسترويكا، ثم بالديمقراطية المقيدة أو ديمقراطية العقل الأحادي – الوطني. لقد عمل هذا الاتجاه على هدم قوانين الكتابة وبدل مواضع وأولويات عناصر الخيال الفني، فاحتلت الشخصيات مكان الحبكة، والحبكة تقمصت الشخصيات، وغابت الخاتمة تماما. وهذا يعني غياب حكم قضائي يحدد مصير الأحداث ومن يحملها أو من يجسد اتجاهاتها. ولا أستطيع أن أقول إنها بشرت بنهاية مفتوحة، بل كانت تعبر عن خوف كامن من المواجهة، بالإضافة لنوع من اللامبالاة والتبرير الأجوف وغير المبرر. وهنا يبدأ دور الأب ولغته النظامية التي تفرض وتسن القوانين.
وفي كل قصص وليد معماري نواجه معضلة من هذا النوع، وهي ليست ببعيدة عن أسلوب فارلام شالاموف مؤلف «قصص كوليما» 1972. إذا كان شالاموف يكتب عن معتقلات التأديب الروسية، كان معماري يكتب عن سجون مفتوحة في واقع يعاني من الضلال والتخبط (وأستعير هذه العبارة من سعد الله ونوس). ومثلما كانت كائنات شالاموف تسخر من عجزها، ومن طبيعتها غير الدرامية والمستوية، لكن التي تأخذ من نفسها موقفا ملحميا بسبب رفض ما تمثله من واقع كالح وضيق، كانت كائنات معماري تسخر من عجز مجتمعها، ومن ضياع النظرية على مذبح التطبيق العملي. حتى إنه أجاز لنفسه أن ينظر لدمشق (عاصمة الأمويين) وكأنها ساحة على مفرق طرق (وهي ساحة الحجاز) وأن يرمز إلى اللاشعور بصورة بغل هائج (انظر قصته الرجل الذي رفسه البغل). وأرى أن هذه القصة نموذج تنطبق عليه فلسفة معماري كلها. فهو يعري نفسه، ويفكر بصوت مرتفع، وتفهم مباشرة أنه لا يخلو من أفلاطونية مادية، ويقسم شخصياته لثلاثة أقسام.
القصص المدينية
فئة السابلة (العامة) فئة الحكام (الخاصة) وهي طبقة مجهولة، ملغزة، ليس لها أوصاف، وفئة المثقفين، وهي ضحية معلقة بين احتمالين: الموت الفيزيائي بفعل طائش وغير مفهوم، والفعل النفسي بفعل الضرورة والطبيعة. وهكذا رمز للمثقف بصورتين (طبيب الأسنان الذي قتله البغل) وتوجد هنا تورية تحصر مهمة الثقافة بالعقل الغاذي، وهو تعبير أرسطي أيضا. والراوي الموازي للحبكة – ضمير المتكلم – لشاهد على ما يجري، وهي تورية ثانية، تحصر مهمة الثقافة بالجدل والكلام أو السفسطائية اليونانية. وهذه مفارقة ساخرة يتوقف عندها معماري مطولا بمونولوجات محزنة لكنها فكاهية. فالجدال (كما يشرح مصطفى صفوان) صفة من صفات المدينة المنظمة والمتحضرة، وليس قاع المجتمع أو حزام التخلف الآسيوي.
وترتب على ذلك تركيب شخصيات عاجزة، تلاحظ ولا تقدم على توفير حلول ناجعة، وجاهزة لرفض نفسها قبل أن ترفض الآخرين.
كانت شخصيات وليد معماري منذ البداية إشكالية، مخلوعة من مكانها، أو أنها خلعت نفسها، ولاسيما في قصصه الزراعية. وفيها تبدو الشخصيات مثل زمرة من السياح، فالبيوت طينية لكنها مجهزة مثل شقق المدن. كان يفرض شخصياته على تلك البيئة، ويضيف إليها معاناة إنسان مثقف ومتعلم، لا يعكس حالة انتماء للأرض بالمعنى الذي عرفناه عند صلاح دهني في «ملح الأرض» 1972. أو المثال الأكثر شهرة عبد الرحمن الشرقاوي في «الأرض» 1956. وفي أحسن الأحوال تجد أنها تجمعات سكانية في ضواحي المدن، أو مخيمات في العراء يسكنها مزيج مختلط من المهاجرين.
باختصار لا يقدم لنا معماري أي علاقة موضوعية وملحمية بالحقل والبستان، أو التراب والنبات، ويترك الحبكة معلقة في فضاء عالم ثالثي مغترب عن نفسه، وغير متفاهم مع قاعدة بياناته. ويكتشف هذا الإنسان المتقلب موضعه الحقيقي في القصص المدينية، ويبدو لعين الناظر مثل أي بورجوازي صغير، تائه، يتعرض لعدة ضغوط لا يفهم أسبابها، ويلوم عليها القدر. لكنه في الوقت نفسه يترك علامات صامتة تتهم عجز المسؤولين، والحضارة الجريحة، كما فعل في قصة «مملكة الأحلام الجميلة» وقصة «أختي فوق الشجرة» وغيرها. ودائما يختم حبكته بالدعوة لإغماض العيون، أو الغرق بالنوم، أو بالانسحاب من مسرح الأحداث بعذر ضعيف. ويبرر ذلك بطريقته الساخرة – ذات النكهة التشيخوفية أيضا: إن هذا العنب حامض. وهو يقصد أن يده لا تطوله.
كاتب سوري