1
يتوجب التحذير من الواقع.
الواقع هو العدو الأول للشعر.
لماذا يسمونه واقعاً، بالضبط لأنه ينسج أشواكه للإيقاع بالشعراء. وقيل لأنه يريد أن يترك الأخطاء تقع ثقيلة على كاهل الشاعر.
2
في الحياة، الواقع ليس هو الحقيقة الإنسانية على الإطلاق. فهو عكس الحقيقة ونقيضها في آن. لذلك فالواقع، يستدرج الشعر لكي يتبدّى فيه كما لو أنه الحقيقة.
حين يخضع الشعر للواقع، يكون قد خانَ حقيقته الحقيقية. ويصبح مروِّجاً فظاً لواقعٍ غير حقيقي، واقع هو في جوهره، العدوّ الرسميّ للحرية والجمال. يحبس حرية الرؤية الشعرية، ويكبح الصورة الشعرية. وبعدها ماذا يبقى من الشعر؟
فإن لم يتدخل خيالك وأنتَ تكتب، فسوف يُفسد الواقع عملك الفني، لذا عليك تفادي تقليد الواقع في ما تكتب، وعدم الخضوع لأوهامه، وإلا فسوف تجد نفسك في منافسةٍ، غير متكافئة، مع التصوير الفوتوغرافي الساذج. الأمر الذي لا يليق بالكتابة والشعر، ويُربك المعنى التقني للتعبير الأدبي. يكتشف الوحش حدود الغابة، فترتعش فرائصه خشية بطش الإنسان.
3
تعب الواقعيون لكي نصدّق الواقع، ثم نقبله، بوصفه الحقيقة. وبناء عليه كان يتوجب علينا نسخ تلك الحقيقة الواقعية في كتاباتنا، لكي نكون واقعيين. وقد أتعبَنا الواقعيون جرّاء ذلك. فعندما كنّا نصغي للواقعية ونقرأ نصوصها، لم نكد نفرّق بين الواقع والنص، لفرط النسخ والتقليد والتكرار، وكان كل ذلك يحدث من غير خصوصية فنية تتجاوز النسخ، حتى إن التصوير الفوتوغرافي قد أنجز في أجمل نماذجه، تجاربَ متقدمة، تجاوزت الصورة الواقعية. في حين أن دراسات علمية نقدية أثبتت استحالة تقليد الواقع، مهما كان النسخ دقيقاً وحصيفاً، حتى إن الباحث السينمائي الأمريكي (أموس فوغل) في كتابه الشهير «السينما التدميرية» (1)، أشار الى أنه حتى الصورة السينمائية، كانت تنقل لنا ما نسبته عشرة في المئة فقط من الواقع، السينما بآلتها المتطورة، كانت تقصر عن الواقع. لم يزل الفن يفضح حياتنا في سبيل تغييرها.
4
لسنا ممن يرى تغيير الواقع بالكتابة، في حين يسعى الواقع، كلما تسنى له، للتحكم في الفن والكتابة وتغييرهما. فكل سلطات الواقع تصدر عن وهم أن الفنون برمتها هي ابنة الواقع، ويتوجب أن تكون خاضعة له، ومستسلمة لشروطه ومعطياته. (لئلا نقع في هذه الخديعة الكبرى).
***
5
الذين يخرجون عن جاهزيات الكتابة الشعرية، القديمة والحديثة، ثم يقفون مشدوهين يتلمسون الأدوات الجديدة، متعثرين في تلابيب مكتشفاتهم، سيجدون في فضاء فنون التعبير الأخرى ما يغني بحثهم وتجاربهم الشعرية، فنون التعبير البصرية على وجه الخصوص. الشاعر يجد في الفنون الأخرى مزيداً من الأجنحة، فالمبدع هو من يشتغل ضد الأنماط والنماذج، وفيما هو يصوغ مبتكراته ومخلوقاته الجديدة، سوف يشعل الشعرية، ويَنْهَرُ حيوية التخوم، لئلا تصير حواجزَ تحجب الحياة عن ورشته. شعرية الأشياء تبدأ من هنا، حيث الشاعر يأتي الى الكتابة متحرراً من جذور الجاهزيات من جهة، ويكون من جهة أخرى مدججاً بالأجنحة، والمزيد من الأجنحة.
6
شعرية الأشياء تمنح الشعر أفقاً نوعياً في جماليات الحرية، وتنوّع الأشكال. وإذا تميز الشاعرُ بوعي هذا التنوع واستيعاب دلالاته، سيتأكد بأن الإعجاب بشكلٍ ما، لا ينفي الأشكال الأخرى، ولا يقلل من أهميتها، فإذا نحن تحدثنا عن أحد الأشكال، لا يعني أنه الشكل الوحيد لكتابة الشعر. فأشكال الكتابة الشعرية لا تُحصى، ناهيك من أن الشعر هو أيضاً لم يعد محبوساً في القصيدة. كما أننا سوف نتوقع أشكال التعبير بعدد الشعراء.
7
يظل الشغفُ شرطَ الشعر. وإلا كيف يمكنك وصف الشجرة وهي مغسولة بالثلج خارجةً من سريرٍ مشبوقٍ في عاصفة؟
8
تذهب إلى ذلك الأفق لا لكي تبحث، لكن لكي تجد.
ذلك هو الشعر، والإبداع برمته هو بمثابة الخروج من النوم بأحلامنا. ففي النوم أنتَ في ورشتك، حيث احتدام الكائنات مشحونة بالصور، ومن الفداحة التفريط في تلك الثروات. المخيلة اليقظة تكمن لك في النوم، النوم مهد الطفولة وعدستها نشيطة التحديق. وكلما اغتنتْ مخيلتُك بالصور، ازدهرت ثروتك بالصورة الشعرية، فالصور المادية «الفنون البصرية» وعطايا الأحلام والمخيلة، هي الجذر الأصلي للصور الفنية، الصورة الشعرية خصوصاً.
1 ـ أنجز ترجمته أمين صالح، وصدر منتصف ثمانينيات القرن العشرين.
٭ شاعر بحريني