هذا المقال ليس مصمماً لإخافة أحد أو ترهيبه على الإطلاق، بل هو مخصص لزيادة وعي الناس بضرورة التفكير ملياً بالسبل الآمنة للتعامل وأبنائهم مع وسائل الاتصالات الحديثة وتطبيقاتها. كما أنه ليس مصمماً للطعن فيما وصلت إليه التكنولوجيا، بل لتحفيز الجميع على توسيع اهتمامهم في بيئات إلكترونية آمنة يحكمها الدراية والاطلاع.
وبعيداً عن المصطلحات التقنية المعقدة والشرح التقني الطويل، أعود وأذكر الجميع بحجم التهاون الذي يتعامل به البشر مع تكنولوجيا الاتصال يومياً، التي باتت الوسيلة الأسهل والأرخص لتواصل الناس، لكنها وكما قلت، ليست الوسيلة الأكثر أمناً، بل الواقع هي الوسيلة الأسرع لوصول من يريد ومن لا تريد أنت، إليك، بل إن البعض لا يبالي بطبيعة التكنولوجيا التي يختارها، ولا طبيعة التطبيقات التي يتعامل معها، بل يقوم بتحميلها على هاتفه المحمول، حتى إن الكثيرين منا، وفي إطار «استسهال» عملية الحصول على التطبيقات المتاحة عبر الشبكة العنكبوتية، ومتاجر الخدمات؛ لا يقرأون شروط الاستخدام، التي تخول في معظمها خاصة تلك المرتبطة بوسائط الاتصال والموسيقى والأفلام؛ الشركة المالكة لأي تطبيق أن تفعّل كاميرات الهاتف الأمامية والخلفية دونما إذن مسبق، إضافة إلى النفاذ إلى قائمة الهواتف وذاكرة الجهاز، أي حدث ولا حرج.
وعملاً بالمقولة القديمة التي تفيد بأن: السر إذا جاوز الاثنين شاع، فإن اللحظة التي تقرر فيها استخدام الإنترنت، فإنك تكون قد فعّلت خدمات شركة الاتصالات، والشركة المزودة لخدمة الإنترنت، والشركة الأم، وقائمة لا تنتهي من المحطات وصولاً إلى تطبيقات متنوعة تأخذك إلى حيث تعرف ولا تعرف.
لابد من التفكير الملي فيما نريد أن ننشر أو لا ننشر، وأن نقضي بعض الوقت في القراءة حول أمن المعلومات في الفضاء الرقمي
وعليه أستطيع أن أقول إن سرك قد جاوز الاثنين لا محالة، وبهذا يكون قد ضاع وشاع وذاع، وانتشر إلى حيث من أردته أنت، أن يسمع أو يشاهد، أو أن لا يسمع ولا يشاهد.
ولهذا لابد من التفكير الملي فيما نريد أن ننشر أو لا ننشر، وفيما نريده أن يخرج وأن لا يخرج، كما إننا لابد أن نقضي بعض الوقت في القراءة حول أمن المعلومات في الفضاء الرقمي، ونطرح أسئلة حرجة لابد منها، ما الذي نريد نشره؟ ما مدى حساسيته بالنسبة لنا؟ ما هو حجم ما نريد إتاحته من معلومات اجتماعية وسياسية وأمنية؟ وكيف لهذه المعلومات أن تستغل ضدنا؟ أو توظف في غير زمانها ومكانها؟ من الذي سيتضرر من شيوع تلك البيانات وانتشارها؟
أبسط الناس لا يكترثون بالبعد الأمني لما يقولون وينشرون، لأنهم يعتبرون أنفسهم خارج إطار المساءلة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، لذا فإنهم لا يفكرون بما سيمتلكه غيرهم من معلومات عنهم. لكن ما لا يعرفونه، أنهم وفي دخولهم العالم الرقمي فقد تحولوا من مجرد أرقام إلى ملفات رقمية مكتملة من حيث: بيانات أحوالهم الشخصية، ومعلوماتهم الاجتماعية، واهتماماتهم على اختلافها، كالرياضة والتسوق وقائمة لا تنتهي من مكونات الشخصية، وصولاً إلى أوضاعهم القضائية والضريبية والجمركية، إلخ. وعليه تقوم الشركات على اختلاف اهتمامها بشراء تلك البيانات لاستكمال دراسات الجدوى التي تعدها، لتحدد مثلاً لا حصراً طبيعة السلع التي يهتم بها المجتمع، أو أيا من الرياضات التي تستهويه، أو طبيعة المواد الترفيهية التي تشده لتقوم تلك الشركات بتقديم ما يتناسب من اهتمامات وخدمات وفق ما توفر لديها من معطيات. لذلك فإن من يوفر لك خدمة ما وتعتقد أنها مجانية، كصفحات الفيسبوك ومنصات اليوتيوب والانستغرام والتيك توك والسناب تشات والقائمة تطول، إنما يوفرها وفي معظمها مجاناً لك.. صحيح، لكنه لا يوفر بياناتك للغير مجاناً. ومع توفير بياناتك فإنها قد تخضع لضوابط عدلية في دول تحدد الضوابط وتحترمها، أو خارج الضوابط في الدول التي لا تعير اهتماماً لحقوق الناس، أو تلك التي تستقوي فيها أجهزة الأمن على خصوصيات الناس. ومهما كانت المدرسة التي يدور في فضائها النشاط الرقمي فإن القوانين تصاغ لتتواءم وطبيعة الدول وحدود الرقابة والخصوصية التي تتيحها، بحيث يطوع القانون لخدمة الشركات والجهات الأمنية والعدلية والضريبية، وفق ما تريده وتصادق عليه منصات التشريع.
وعليه فإن بعض من يدعون الحضارة في عالمنا العربي والعالم الغربي وإسرائيل إنما يديرون منظومة أمنية استباحية حديدية بامتياز. وعليه فإن قول الشاعر: القوم في السر غير الناس في العلن، إنما ينطبق على تصرفات العديد من الدول التي تدعي أشياء كثيرة، وتمارس موبقات أكثر تخترق فيها كل المحرمات بحجة الأمن. وعليه لابد أن يسأل الناس ما الحل؟ الحل في القراءة والاطلاع وإيلاء موضوع الفضاء الإلكتروني والأمن الشخصي والعائلي اهتماماً معقولاً، وصولاً إلى التبصر في سبل تجنب القمع الرقمي لأبنائنا، عبر توعيتهم وتنشئتهم تنشئة صحيحة توفر الأمان الرقمي المطلوب. إن مجرد دخولك إلى العالم الرقمي فإنك قد دخلت وبقرارك إلى عالم لا سر فيه، خاصة أننا لا ننتج التكنولوجيا وبالتالي لا نمتلك أي رباطٍ عليها. والمتتبع لحروب الاتصالات العالمية يعرف كيف قاتلت أمريكا لدوام استدامة إدارتها للإنترنت، وكيف قررت دول كالصين السباحة عكس التيار وكسر هذه الهيمنة الأمريكية. لذلك من يتجسس علينا: الجميع، وبقرارنا وإذعاننا دون أن نعلم، أو حتى بشيء من علمنا لكن دون اكتراثنا.
للحديث حتماً بقية في هذا المضمار. دمتم آمنين!
كاتب فلسطيني