من يزعم أن نتنياهو كذاب؟

حجم الخط
0

لا مراء في أن الكل يجمع على كذب نتنياهو وافتراءاته. فمنذ بداية طوفان الأقصى وهو لا يمارس سوى الكذب والافتراء. لكنه كان صادقا في عبارة واحدة أراها تختزل كل ما وقع في هذه الإبادة الهمجية، ومن خطابات التحايل والتضليل. إنها عبارة: «الجيش الإسرائيلي أكثر أخلاقية في العالم».
إن من يزعم أن نتنياهو كذاب كان بلا شك يتوهم أنه يمكن أن يكون صادقا، أو يريده أن يكون كذلك، بانطلاقه من أنه كان يكذب كلما كان يقول بأنه بعث مفاوضيه، لأنه في الحقيقة كان يقدم شروطا جديدة كي لا تكون هدنة ولا صفقة. ومن زاوية النظر هذه فأكاذيبه لا حصر لها لمن كان يريد تصديقها. لكن الحقيقة أن الرجل لم يكن يكذب. كان صادقا في كل ادعاءاته وافتراءاته لأن ما يدخل في باب الكذب والافتراء، في كل الثقافات البشرية، هو جزء من أخلاقياته. ولعل أهم وأصدق كلمة تفوه بها، لأنها جامعة مانعة، تتعلق بأخلاقية جيشه التي لا نظير لها على الإطلاق. وأن من لا أخلاقية لهم هم من يرون أو يظنون نقيضها.
إن الأخلاقية الصهيونية كما عبر عنها نتنياهو وزبانيته نقيض الأخلاق المسطرة في الأعراف العريقة، والقوانين والمواثيق الدولية المعاصرة، ولذلك فهو لا يعبأ بها، ولا يهتم بأي كان ممن يؤمن بها، بل إنه بعد ضرب دمشق صرح بأن كل من يفكر في مواجهة إسرائيل في الشرق الأوسط، سيلقى المصير نفسه؟ وكيف لا يفعل وإلهه الأمريكي، الذي ظل عليه عاكفا مستعطفا تزويده بالذخائر، يحميه ويؤكد أخلاقياته تارة باسم الحق في الدفاع عن النفس، وطورا بالحديث عن إسرائيل الكبرى، أو الشرق الأوسط الجديد. نعم إلهه الأمريكي يكذب أحيانا حين يطالبه بعدم المغالاة في تلك الأخلاقيات، لأنه في الواقع يمده بكل الوسائل والأدوات والأقوال التي تشجعه على مواصلة اقتراف أفظع تلك الأخلاقيات. من لا أخلاق له لا أسطورة شخصية له، ولا هوية قومية، وعليه ألا يحلم بالمستقبل.
لقد تبين لكل ذي عينين أنه صادق في عدم إيمانه بالدولتين. فثمة إله واحد، ووجب وجود دولة واحدة. وشعب الله المختار أولى بالبقاء، وعلى الحيوانات البشرية أن تباد على يد أكثر جنود العالم أخلاقية. ألا ترون في تواتر الدعوة إلى الإخلاء، وادعاء القصف على المواقع المدنية لأن «الإرهابيين» يتحصنون فيها، وأن استمرار الجيش الإسرائيلي في الإبادة، حتى تحقيق الأهداف الكبرى المسطرة منذ صبيحة الثامن من أكتوبر/تشرين الأول لأكبر دليل على تلك الأخلاقية؟ أما القول ببعث المفاوضين فليس إلا لممارسة التقتيل والتدمير أضعافا مضاعفة لتحقيق الغايتين الأخلاقيتين الكبيرتين: رفع أعداد القتلى والمصابين من جهة. والضغط على المقاومة للاستسلام والخضوع، من جهة أخرى. لذلك كان الحديث المطمئن عن المفاوضات التي يرعاها الرب الأمريكي، لا من أجل هدنة أو وقف للنار، ولكن من أجل مطالبة المقاومة بقبول شروط إسرائيل بالبقاء في غزة، والتسليم ببناء مستوطنات جديدة في الضفة، تحمل أسماء الدول اللاأخلاقية التي تعترف بالحق الفلسطيني في أن تكون له دولة، نكاية بها، وسخرية منها.
وها هو الرب المنتظر لرئاسة أمريكا، كما ترغب في ذلك الصهيونية، يرى بعيون أخلاقيات لا حد لها أن خريطة الدولة الإسرائيلية بمثابة قزم أمام العملاق الإيراني، وعليها أن تتمدد لتكون إسرائيل الكبرى التي هي التجسيد الأسمى للعناية الأمريكية، وللهوية الأسطورية الإسرائيلية. ألم يزعم ترامب أن المقاومة استغلت في السابع من أكتوبر «اختفاءه»، أو غيابه عن صناعة القرار الأمريكي، ففعلت فعلتها اللاخلاقية التي فعلتْ، وإنه ينذرها بعد عودته إلى السلطة بنكبة أكبر من 1948، لإعادة الأخلاقية الحقيقية إلى مجراها الطبيعي الذي كان قبل طوفان الأقصى.
من يتحدث عن الأخلاق واللاأخلاق في زمن لا أخلاق لأهله، ليست له سلطة الكلمة والخطاب التي هي سلطة الفعل والقرار. ولقد برهنت المقاومة الفلسطينية في غزة، على أنها أبرزت أن لها سلطة الفعل، ودفعت في اتجاه الكشف عن أخلاقيات الصهيونية والأمريكية، ولا أخلاقيات من يتشدق بالأخلاق قاريا وعالميا. وهذه هي ميزة الحدث الأكبر: طوفان الأقصى الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد أن كانت مدرجة، أو قابلة لأن يغلق عليها نهائيا، في ثلاجة مستودع الأموات. عن أي أخلاق يمكننا أن نتحدث في وقت يجول فيه صاحب التكنولوجيا الرقمية، ويصول مفصلا العالم حسب مصلحة الرأسمال الذي يوظف لرشوة الدول، وشراء المخبرين والإعلاميين وأشباه المثقفين، ومدعي فلسفة التواصل، وتوظيف المرتزقة، بقصد إبادة القضية الفلسطينية، وكل الفلسطينيين.
فهل الأخلاق ذات طبيعة إنسانية ما دامت تسعى، كما تدل على ذلك كل الثقافات البشرية، إلى وضع قواعد وقيم تراعي إنسانية الإنسان وكرامته وترعاها وتحرص عليها؟ أم أن الأخلاق هي ما تبغي دولة طاغية فرضها على غيرها، وإن كانت ضد مصلحتهم ووجودهم، وإلا فهم عرضة للسحق وأهل للإبادة؟ وهل الأخلاقية الأكثر عالميا في التصور الصهيوني الأمريكي هي نموذج الأخلاق التي يجب التشبث بها من لدن كل الأمم والشعوب؟ وإلا فماذا يقول «المجددون» عن بيت شوقي عن الأخلاق؟
كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية