من يضرب بالمعنى يقتل المعنى!

«أنا عدمي، أشاهد، أضطلع، أحلل الثورة الثانية، ثورة ما بعد الحداثة، التي هي الصيرورة الواسعة لتدمير المعنى والمظاهر.»

بودريار

صفة الفراغ، اعتقال الحوار، عنف التواصل، كلها ميزة المجتمع المنغلق والإنسان ذو البعد الواحد. فهذه الصفات العدمية تقود حتما إلى اضمحلال الأمل، وغياب الموازنة بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين العامة والفلاسفة، هكذا تتم تهيئة المجال من أجل هيمنة الاستبداد، فما العمل؟
يجب الدعوة إلى العنف الرمزي لا الحقيقي، لأنه هو الوسيلة الوحيدة المتبقية لهذا النوع الغريب من الإنسانية، التي يتخبط فيها العالم العربي، حيث اللايقين والظن والزيف هو السائد، مما قاد إلى الكارثة.
في أفق الكارثة تتم صياغة مفهوم العدمية الذي أعلن عن أفول العرب، هكذا فقدت الأصالة هويتها والتراث حقيقته، والحقيقة صدقيتها، أي محبة الحكمة، لقد دخلنا في الفراغ، بل في النهايات قبل البدايات، وعندما يصبح التشاؤم شعار المرحلة، والإرهاب يسود بعنفه. لكن كيف يمكن رفض الإرهاب والتشجيع على العدمية؟ أليست العدمية مقدمة للإرهاب؟ وأن لا فرق بين الإرهاب النظري والإرهاب المسلح. لقد انتهت تلك اللحظات الجميلة في التاريخ العربي، التي كانت تنتج المعنى، وتسمح بقيام الأفق الكوني منذ حلقات الكندي، الذي ربط نهضة العقل بنهضة الترجمة. لحظات إيجابية لإعادة بناء الفكر على أصول الفلسفة اليونانية، بيد أن الهجوم الذي تعرض له هذا المشروع تمثل في هدم الوجود وبناء العدم، وفي هذا الأفق يتم الإعلان عن نهاية التاريخ، ونهاية الإنسان كحيوان عاقل، ومن يدري، ربما أنها نهاية الحياة على الأرض.
وبما أن الإنسان أصبح يتدحرج إلى خارج التاريخ نحو المجهول، فإن عبادة الماضي ستصبح بمثابة المقدس الأكثر رمزية في حياته، فمن خلاله يثبت وجوده، إنه الكوجيتو الوحيد، أنا أقدّس الماضي إذن أنا موجود. هكذا يبدأ عصر الفراغ، وليس عصر الأزمة، ذلك أن الأزمة لها حل، والفراغ يتجه نحو تأسيس العدمية، ومن الحماقة أن يسعى الفيلسوف إلى الانزياح عنها، لأنها تستضيفه مكرها.

لم يعد ممكنا قراءة عصر الفراغ، من خلال التغيرات الاجتماعية، التي لحقت المجتمعات التي يهيمن فيها الدين على السياسة وظهور نرجسية رجال الدين المبجلين من قبل الأنظمة الاستبدادية، حيث يبدو على سلوكهم تدبير طفولي للشأن العام، والشاهد على ذلك علاقتهم الغريبة بالنساء، فما أعظم مكر التاريخ الذي قام بفضح السلوك النرجسي. في حالة إنجاز مستمر، يظهر الاستمتاع بالحاضر والخوف من المستقبل، والخضوع لهيمنة الدول العظمى، هكذا يصبح الهروب من الالتزام السياسي، وفوضى السلطة وعشوائية الفكر، هكذا تتهاوى رمزية المجتمع السياسي بعدما انهار المجتمع المدني، وأفول الواجب الأخلاقي: «لقد أصبح الدين هو المرآة المفضلة التي تعكس روح العصر»، لكن هذه الروح توجهت نحو الإرهاب تحت تأثير «الفكر العنفي» الذي دمر صورة العربي.
هكذا أضحى القدر الحزين للعرب يتجه او بالأحرى يسير نحو الظلام، وما يؤكد ذلك واقع التعليم الفاشل، وانتشار الجهل والبطالة، والعنف، وغياب العدالة، وعدم احترام القانون، بل أكثر من ذلك لقد تحول الحديث عن نهاية السياسة مدخلا لنهاية الأخلاق، وإلا ما معنى هذا الجنوح، والعنف وانتشار المخدرات والفساد المزدوج؟ وهل يمكن المطالبة بانعتاق الأخلاق من الاستبداد الديني ومنحها الواجب العلماني؟ وما معنى الواجب العلماني فلسفيا؟ إذا كان الغرب قد جرب أخلاق الواجب، وانتقل الآن إلى ما بعد الواجب التي تواكب فلسفة ما بعد الحداثة، حيث تتميز بـ«حب الذات، والعادة الفردية، والحقوق الخاصة»، فإن العرب ظلوا في النسق الوسطوي للواجب الديني، سواء على مستوى العائلة أو المدرسة أو الدولة أو المجتمع. إنها أخلاق القمع والمنع دون فضيلة ولا حكمة سياسية، فكلما عظم المنع انهار الواجب، وانهار معه الخير تاركا مكانه للشر: «إذا كان للتقدم الأخلاقي من معنى في التاريخ، فإنه لا يتمثل فقط في الاحترام التام لحقوق الإنسان، ولكن في قدرتنا على إصلاح التعصب من خلال التحلي بالأخلاق الحذرة، حيث التوجه نحو ربح الوقت ضد الشر والمعاناة الإنسانية». لكن يمكن لهذه الاخلاق التي تحترم حقوق الإنسان وتنشر الواجب أن تطبق عندنا؟ ومن سيطبقها؟ وهل يمكن للحزب الديني المهيمن أن يسمح بها؟
لا نستطيع غير الاستغراب أمام هذا الوضع المتردي، الذي يمجد الرداءة في كل المجالات، وبما أن الرداءة تشبه مرض السل، فإنها تنتشر بسرعة في المجتمعات الجاهلة، التي لا وجود فيها للفلسفة والعلم، فأنطولوجية الحاضر تحولت إلى أنطولوجية الماضي، ولم يعد الإنسان هو الإنسان، بل مجرد إنسان من حجر لا يهتم بماهيته وبالأحرى الاهتمام بفكره والشعور بالعيش المشترك، إذ لا وجود للوعي الذاتي في مثل هذه المجتمعات. يقول فوكو: «إن الدين هو روح عالم بلا روح»، فقدان الروح معناه غياب الفكر، ولعل المسؤول الأول عن هذا الغياب هو الروحانية الثيولوجية التي تروج للأساطير من أجل هدم أنطولوجية الحاضر بواسطة القول وتكرار القول: الشرق شرق والغرب غرب، فلا مجال للمقارنة بينهما، وبلغة المتطرفين، فإن الديمقراطية لا تصلح إلا في الغرب، كما هو الحال مع حقوق الإنسان، والمساواة والكرامة.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد الحسنات:

    شكرا على الموضوع المميز، إضاءة وإطلالة فنحن شرق وهم غرب،ومونديال قطر 2022، أسقط
    الأقنعة، وكبلنج(لعين الحرسي) الهندي المولد والبريطاني الأصل والفصل، عندما قالها، لخص الحالة النفسية
    والثقافية والاجتماعية التي تحكم سلوك الشرقي والغربي، أما بالنسبة لقيم : الحرية ،الكرامة،
    وحقوق الإنسان، فهي حقوق أصيلة إنسانية عالمية، كما أقرها،، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،،
    ١٩٤٨، والفارق محصلة إستبداد شرقي أو ديموقراطية حقيقة، ما رايك ؟

إشترك في قائمتنا البريدية