مدينة القرم بسلاح أمريكي خّلف عشرات القتلى والجرحى، ثم العملية الإرهابية في جمهورية داغستان، يعد تطورا كبيرا في المواجهة العسكرية بين الغرب الأطلسي وروسيا، بشكل يزيد في تأكيد أنّ الحرب الأوكرانية هي أكبر أزمة في العلاقات بين روسيا والغرب منذ أزمة الصواريخ الكوبية. ومثّل هذا التصعيد بشكله ونوعه وكأنه يستعجل تفعيل ما تلوح به موسكو باستخدام الأسلحة النووية، في حال تدخل الناتو، ما يؤشر لنقل الصراع في أوكرانيا إلى مستوى مختلف تماما، ووضع العالم على شفا حرب عالمية ثالثة ليست كسابقاتها.
الولايات المتحدة وحلفاؤها يواصلون حصار روسيا اقتصاديا، وتهديدها عسكريا، ويصرون على مواصلة دعم كييف بكل ما تحتاجه للتصدي للترسانة الروسية. والمواجهة مستمرة بشكل تصعيدي خطير، مع انضمام دول جديدة لحلف الناتو ورد موسكو بإقامة تحالف استراتيجي وعسكري مع بيونغ يانغ. في كل ذلك، يبدو أنّ لا مؤشر لدى أوروبا في البحث عن استقلالها الاستراتيجي عن الولايات المتحدة الأمريكية. وهي اليوم مرتبكة بين موجة صعود اليمين المتطرف، واحتمال عودة دونالد ترامب لرئاسة البيت الأبيض. انضمام السويد، بعد فنلندا، يعني أن كل الدول الواقعة على بحر البلطيق، باستثناء روسيا، أصبحت الآن أعضاء في الناتو، في الوقت الذي أشارت فيه صحف أمريكية إلى تلك الخطوة، بأنها القطعة الأخيرة في استراتيجية الناتو الرادعة بشكل حاد في بحر البلطيق وبحر الشمال، مع حماية أكبر لدول الخطوط الأمامية مثل فنلندا والنرويج ودول البلطيق، التي تقع على الحدود مع روسيا.
الكرملين حمّل الغرب مسؤولية اتساع الخطر النووي لمغالاة الثلاثي النووي الغربي، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في دعم أوكرانيا
انضمام دول جديدة بشكل رسمي إلى الناتو يسلط الضوء على كيفية تغيير الحرب في أوكرانيا للأمن الأوروبي، بطرق ربما لم يتوقعها الرئيس الروسي، ولكن موسكو تستعد بالتأكيد لمواجهة واسعة النطاق تتجاوز المحيط الأوكراني مع أنها ترغب في تجنب مواجهة مباشرة مع الناتو في الوقت الراهن على الأقل. إذا انهزمت روسيا في أوكرانيا أو واجهت منطقة حظر طيران في كييف ينشئها الأطلسي، فستكون لذلك عواقب مباشرة وربما حرب تقليدية بين روسيا ودول الحلف. وإذا ما استطاعت موسكو الانتصار في هذه الحرب وأجبرت أوكرانيا على قبول السلام بشروط روسية، فسيكون ذلك تحديا أمنيا هائلا للغرب. معنى ذلك أنّ لا نتائج أقل ضررا لهذه الحرب خارج توافقات ترضي الطرفين، أو على الأقل فيها قدر من التنازلات تكون الحل الأفضل للجميع. عدا ذلك فإنّ السيناريوهات أقل ما يقال عنها إنها ستكون تدميرية بشكل يغير النظام الأمني الأوروبي والعالمي تماما. روسيا الاتحادية لن تحيد عن مسعى تأسيس عالم متعدد الأقطاب بتحديث قواتها النووية بالتزامن مع توطيد العلاقة مع كوريا الشمالية والصين، والتعاون بين موسكو وبكين يستهدف أساسا ردع سلوك واشنطن الذي يهدد الاستقرار العالمي منذ عقود. في هذا الإطار تأتي تحركات الصين وروسيا في السنوات الأخيرة تتويجا للشراكة بلا حدود، لمجابهة تهديدات المرحلة والتحديات الاقتصادية والتنافس الاستراتيجي مع واشنطن وأتباعها. المواجهة بين روسيا والناتو مستمرة إلى اليوم، في سياق تصعيدي يتضح في نقاط الحشد العسكري لكلا الجانبين، والمسار ليس دفاعيا تماما كما جرت العادة خلال العقود الماضية. روسيا تتفوق بشكل واضح في قدرات مجمع الصناعات الدفاعية على حلف الناتو، وهذا ما يثبته الميدان. في الأثناء، تشكيل طوق بحري خانق في بحر البلطيق من قبل حلف الأطلسي ليس بالخطوة المفصلية في استراتيجية المواجهة والضغط. إذ يبقى معطى الجاهزية وفارق التعبئة العسكرية المحسوم لصالح روسيا واضحا، كذلك سيكون لعامل الردع النووي دور حاسم في تحديد موقف التصعيد المرتقب وتداعياته. مثل هذه الواقعية العسكرية تجعل إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا بمثابة الخطأ الكارثي على المستويين الأمني والاستراتيجي بالنسبة لأوروبا ولحلف الأطلسي عامة، لأنّه سينقل الصراع المسلح بشكل فوري من عملية عسكرية خاصة في منطقة محددة إلى مرحلة الصراع بالصواريخ الدقيقة وحتى النووية، وهو أمر حذرت منه موسكو مرات عديدة الولايات المتحدة وباقي دول حلف الناتو. الأمريكيون أكدوا أن استخدام الأسلحة بعيدة المدى داخل روسيا لا يزال محظورا، رغم أنّ واشنطن تعد أكبر مانح للأسلحة في كييف، يسمحون لها باستهداف القرم، وربما العمق الروسي لاحقا وذلك بصواريخ أمريكية بعيدة المدى. هل يختبرون مدى صحة التهديدات الروسية المعلنة مسبقا في هذا الشأن؟ أم يدفعون فعلا نحو جعل أوروبا ساحة مواجهة مدمرة كما كان الحال في الحروب العالمية السابقة؟ عموما من دفع بمئات شحنات الأسلحة إلى إسرائيل لكي تدمر غزة وتقتل المدنيين، ليس في ميزان حساباته الإنسان، وإنما إضعاف الدول والحفاظ على الهيمنة ولو على حساب الحلفاء التقليديين المدمرين اقتصاديا. أما المخاوف التي زادت لدى الغرب بإعلان روسيا رفع التسليح التقليدي والنووي، وازدهار صناعة السلاح لديها، فهم من تسبب فيها لتجعل مواقف هذه الدول الغربية أكثر تشددا تجاه تسليح أوكرانيا ودعم الناتو. كل هذا رغم تواصل الخلاف بين الأوروبيين بشأن المواجهة مع روسيا. الرئيس التشيكي بيتر بافيل يعتبر أن استعادة أوكرانيا لكامل أراضيها المعترف بها دوليا أمر غير مرجح في المستقبل المنظور. وقد شدد على أهمية وضع حدود واضحة لروسيا للحفاظ على السلام والأمن في أوروبا، محذرا من مخاطر تفاقم الوضع في حال عدم القيام بذلك. المجر، رفضت المشاركة في خطة حلف شمال الأطلسي طويلة المدى لمساعدة أوكرانيا، واصفة الخطة بأنها «مهمة مجنونة». وتبقى بولندا من أكثر الدول الأوروبية تخوفا من إمكانية اندلاع حرب نووية بين روسيا والأطلسي.
بعد موافقة واشنطن وباريس وبرلين على رفع القيود على الأسلحة الغربية، والسماح لكييف باستخدامها لضرب أهداف على الأراضي الروسية، يدخل الصراع الغربي الروسي مرحلة جديدة أشد توترا منذ بداية الحرب الأوكرانية. خاصة مع تغير الوضع الاستراتيجي في منطقة بحر البلطيق والجناح الشمالي للتحالف العسكري الغربي ومحاولة حلف شمال الأطلسي تعزيز سيطرته هناك. قد لا تمتلك روسيا أي خطط ضد دول الحلف، ولكنها لن تسمح لهم بالاقتراب من حدودها. الكرملين حمّل الغرب مسؤولية اتساع الخطر النووي لمغالاة الثلاثي النووي الغربي، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في دعم أوكرانيا. ويأتي إجراء الأطلسي مناورة «المدافع الصامت»، وهي الأكبر منذ الحرب الباردة بالقرب من حدود روسيا، ليزيد في تعقيد الأمور، ويعزز تبرير موسكو تدخلها العسكري في أوكرانيا، الذي كان لهذا السبب، وهو اقتراب الناتو من حدودها. ماذا فعلوا؟ لقد عادوا إلى النقطة الصفر، لا مفاوضات، ولا أفق للسلام والتهدئة، بل تعزيز المواجهة والتصعيد الذي ينبئ بمزيد من الحروب والتدمير والأزمات على حساب الحياة المشتركة، وفرص التعاون والتعايش السلمي على هذا الكوكب.
كاتب تونسي