طرابلس لبنان: ظل المهاجرون اليائسون، على مدى سنوات، يغادرون سواحل شمال لبنان في قوارب صغيرة، صوب الشواطئ الأوروبية. وحتى وقت قريب، كان معظم هؤلاء المسافرين من اللاجئين السوريين أو الفلسطينيين. لكن بعد سقوط لبنان في مخالب الأزمات، بدأ اللبنانيون ينضمون لأفواج المغادرين بأعداد أكبر.
لم يكن محمد غندور يتصور قط أنه سيكون واحدا ممن تحملهم السفائن صوب شواطئ أوروبا. لكنه أصبح يقول إن الأزمة الاقتصادية، التي سحقت الليرة اللبنانية وجعلته عاجزا عن إطعام أطفاله السبعة، لم تترك له خيارا آخر غير الهجرة.
قال غندور لرويترز هذا الأسبوع في شقة والدته الضيقة التي يقيم بها مع 12 آخرين من أفراد أسرته في ثلاث غرف “بلبنان عم بيقتلني الفقر”. رجع إلى طرابلس، وهي واحدة من أفقر مدن لبنان، بعد أن أعادته قبرص.
وأضاف غندور “هيدا أضرب (أسوأ) من الحرب… أولادي… راح يموتوا بالشوارع أو راح يصيروا مجرمين ليعيشوا”.
غندور (37 عاما)، هو مجرد واحد من عشرات اللبنانيين الذين حاولوا القيام بالرحلة منذ أواخر أغسطس آب، وهو نفس التوقيت الذي بدأت فيه زيادة أعداد القوارب المغادرة للبنان بحسب جماعات حقوقية. وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة، تتبعت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين 21 قاربا غادرت لبنان بين يوليو تموز و 14 سبتمبر أيلول. وفي العام السابق، كان العدد الإجمالي لهذه القوارب 17 فقط.
أشعلت الزيادة مخاوف السلطات القبرصية، خاصة في ظل ظروف جائحة كورونا على مستوى العالم. وقبرص أقرب دولة عضو في الاتحاد الأوروبي جغرافيا من الشرق الأوسط. وشهدت زيادة تدريجية في أعداد المهاجرين واللاجئين الذين لا يحملون وثائق على مدى العامين الماضيين، بعد أن أصبحت الطرق الأخرى أكثر صعوبة.
وقال غندور إنهم بعد 28 ساعة في البحر، وصل قاربهم، الذي كان يقل أيضا زوجته وأطفاله وأقارب آخرين، إلى شاطئ بالقرب من منتجع لارناكا الساحلي. وأضاف أن أسرته احتُجزت في مخيم لعدة أيام، وأجريت لها اختبارات للكشف عن كوفيد-19 ومُنعت من تقديم طلب رسمي للجوء قبل إعادتها إلى لبنان.
وقال “ما فكرت إنه راح يرجعونا (لم أكن أعتقد أنهم سيعيدوننا) كان لازم يخلونا نغرق بالماء أحسن من نرجع هون”.
وقالت السلطات القبرصية إن نحو 230 لبنانيا وسوريا أعيدوا إلى لبنان بطريق البحر في أوائل سبتمبر أيلول. وكانوا قد وصلوا إلى قبرص على متن خمسة قوارب على مدى الأسابيع السابقة.
وقال ستيليوس باباتيودورو قائد الشرطة القبرصية لرويترز “بناء على أوامر حكومتنا وبعد مشاورات بين الحكومتين (قبرص ولبنان) أعدناهم بأمان في السادس والسابع والثامن من سبتمبر أيلول”.
ونفى اتهامات بأن السلطات كانت تسيء معاملتهم وتدفع قواربهم مرة أخرى باتجاه البحر.
وقال باباتيودورو “قدمنا لهم الطعام والماء وغطينا جميع احتياجاتهم على نفقتنا الخاصة”.
ولم يرد الأمن العام ولا وزارة الخارجية اللبنانية على طلبات مكتوبة للتعليق.
ظل غندور عاطلا عن العمل ثلاث سنوات، وقرر الشهر الماضي أن يرحل للأبد وأن يجرب حظه في قبرص. غادر شقته وباع أثاثها وطلب من أبنائه الأكبر سنا بيع الخردة للمساعدة في شراء قارب صغير وإمدادات للرحلة الخطيرة.
كان غندور أحد أربعة مهاجرين قابلتهم رويترز قالوا جميعا إنهم أُعيدوا على وجه السرعة إلى لبنان. وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إن قبرص ردت ما لا يقل عن خمسة قوارب كانت تقل لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وآخرين غيرهم.
وقال بيل فريليك، مدير قسم حقوق اللاجئين والمهاجرين في منظمة هيومن رايتس ووتش، الذي كان يراقب عمليات الإعادة “لا يجوز إعادة الناس على عجل دون النظر في مطالبهم بشكل تام وعادل”.
وأضاف أنه على الرغم من أن لبنان ليس في حالة حرب وأن الصعوبات الاقتصادية ليست أساسا معترفا به لطلب اللجوء، إلا أن الأزمات الكثيرة التي يواجهها لبنان تعني أن بعض مواطنيه والمقيمين فيه قد يواجهون تهديدات خطيرة، فيما قد يكون آخرون مؤهلين للحصول على وضع لاجئ بذريعة الخوف من التعرض للاضطهاد.
وفي مقابلات مع رويترز، قال مهاجرون إنهم أبلغوا السلطات القبرصية بمخاوفهم من العنف وعدم الاستقرار وبأنهم غير راغبين في العودة.
وفي أغسطس آب أسفر انفجار في مرفأ بيروت عن سقوط نحو 200 قتيل.
وقال المهاجرون أيضا إنهم تعرضوا لأساليب عدائية عند اقترابهم من قبرص. وقال شمس الدين كردي إن قاربه، الذي كان يقل 52 مهاجرا، تعرض للحصار عدة مرات ولحقت به أضرار قبل أن تسحبه السلطات إلى الشاطئ.
قال كردي “بنتي قالتلي: بابا الله يرد عليك ما تخليهم يموتونا”.
لم يكن غندور يتوقع استقبالا عدائيا في قبرص. فقد حاول في السابق البحث عن عمل في ألمانيا، في ذروة تدفق موجات المهاجرين إلى أوروبا في عامي 2015 و 2016، وقال إنهم كانوا يستقبلونه بلطف، لكن “ها المرة (هذه المرة) عاملونا مثل الكلاب”.
بالرغم من ذلك، يؤكد غندور وكردي عزمهما ركوب البحر مرة أخرى في المستقبل القريب.
لكن الرحلة الأولى، بالنسبة لآخرين غيرهم، قد تكون الأخيرة.
فقد غادر اثنان من أقارب مظهر عبد الحميد محمد، لبنان قبل 11 يوما على متن قارب يكتظ بنحو 50 من الرجال والنساء والأطفال. وبعد سبعة أيام يتخبط فيهن القارب على غير هدى في الماء، أنقذته قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة قبالة سواحل لبنان، ولم يكن على متنه سوى 36 شخصا لا يزالون على قيد الحياة. ولم يكن الرجلان بين الموجودين على القارب.
وأبلغ أحد الناجين الذين عادوا إلى لبنان محمد أنه قفز في الماء مع الإثنين لمحاولة طلب المساعدة. لكن لم يتم العثور عليهما.
(رويترز)