هنالك حالة من الانتظار تطبع السلوك والاجتماع العربي الإسلامي العام. لم نعد نسمع الكثير عن مشاريع النهوض والبعث والتجديد الإسلامي، بل إن مصطلحات عديدة اختفت من المشهد. إني أتساءل أين ذهبت كلمة الصحوة الإسلامية التي طبعت القرن العشرين بأكمله؟ أين اختفت كلمات مثل الدعوة التي لم تفارق وعي أولئك الشبان المتدينين منذ منتصف القرن العشرين؟ أين توارت تلك الكتيبات والمؤلفات التي لم تتوقف عن الصدور بشكل متواصل طيلة القرن العشرين، مبشرة بمستقبل ودولة ومجتمع إسلامي مثالي، ومنتقدة بعنف أوضاع المسلمين والعالم؟ أين اختفت تلك الكلمة الكبيرة، البديل الإسلامي المنتظر؟ وأين اختفت برامج القنوات التي كان يناضل الإسلاميون فيها ويتحدون خصومهم من خلالها؟ الجواب هو أن التغيير قد مس الوعي بشكل أعمق مما مس السياسة وتحولاتها. لقد كانت كثير من المشاريع والأفكار الإسلامية واليسارية مهدوية خالصة في روحها.
المعجم الإسلامي
إنك إذا أردت الآن أن تعيد هذه الكلمات نفسها مثل الدعوة والأخوة التنظيمية، والمعجم الإسلامي السابق إلى الحياة، فإنك لن تستطيع عكس عقارب الساعة لتجعل الناس يشعرون بما كانوا يشعرون به سابقا بدافع التضحية والحلم. فالكلمات تتبع حركة الإنسان وتنقل معانيه. وبعد أن ذاق الناس حلاوة السلطة ومغانمها ومغارمها أصبحت عودة المحاربين القدامى إلى الكلمات والمعاني السابقة ودعوة الناس إليها والتبشير بنموذج المستقبل أمرا تستصعبه النفوس ولا تطيقه، فقد تبدلت الأغراض. وكذلك كان اليسار قد اختفت كلماته ولم يعد معنى لأن تسمع كلمة الرفيق المناضل في ندوة فكرية أو نشاط ثقافي. بل إن الكلمة أصبحت ثقيلة ثقل الجبل على الوعي العربي، بعد أن كانت خفيفة خفة الريش ورمزا لفكر وتيارات عريضة في المنطقة والعالم. إن لعبة الوعي تكشف تغيرنا، وكثير منا إذا قرأ قصيدة الشاعر أمل دنقل، يشعر بغربة عجيبة عن معانيها. حتى لكأننا نشك أنها قيلت يوما، أو نشك أن أحد الشعراء قد بلغ من الوعي ذلك الحد تجاه قضية فلسطين.
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأس
أكلُّ الرؤوس سواء؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟ وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك. بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
قاعة الانتظار الكبرى
الجميع ينتظر شيئا غير محدد الملامح في العالم الإسلامي. ربما يكون هذا الشيء المنتظَر موجات تغيير جديدة أو حركات منتظمة مختلفة عما عرفه الاجتماع العربي والإسلامي في السابق، تقوم بترميم الحطام الحالي. أو لعله قد يكون في تصور بعض اليائسين قائدا أو سياسيا استثنائيا يعيد ترتيب أوراق المنطقة كما يحدث دائما في التاريخ. في كل الأحوال أصبح الانتظار عقيدة في الفترة الحالية. والسبب واضح وهو غياب أي مقترحات جديدة أو أفكار كبرى، أو إرهاصات أولية لتشكل ممكن في المدى المتوسط.
إن الفكر العربي والإسلامي في الوقت الحالي يتصرف وفق برنامج عمل يومي محدود، لا أثر فيه للمخططات بعيدة المدى. ويتغذى المفكرون الحاليون على الأحداث اليومية، لتقديم وجهات نظرهم حول ما يجري، لا حول ما ينبغي أن يكون أو ما نريده أن يكون مستقبلا. كانت أحلام الوطنيين والإسلاميين واليسار سابقا مهدوية، لكنها كانت تضع أمامها أهدافا على الأقل، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة. وسواء طمح البعض إلى الدولة الديمقراطية أو طمح آخرون إلى الخلافة فإن ذلك كان في النهاية يسمى أهدافا واضحة. لم تعد الدولة طموحا لأحد إذا نظرنا إلى مجمل الأفكار الرائجة الحالية على قلتها. وحتى التنظيمات العنيفة مثل القاعدة وتنظيم الدولة يتغير وعيها بالعالم. ولابد أن تتسرب إلى وعيهم وهمية هدف إقامة دولة إسلامية بالطريقة التي اعتقدوها منذ البداية. حتى هم قد أصبحوا انتظاريين. إن هذه التنظيمات قريبة في سلوكها جدا من المهدوية بسبب عدم إيمانها بمنطق الضعف والغلبة، وقدرة العدو وعدم امتلاكها أدوات محاربة العالم بأسره. وهكذا يفكر البعض بأن المهدي سوف يشتغل بدون أدوات لقلب أحوال العالم.
لو كنت أنا متبعا للمهدي منتظرا خروجه في المسلمين لما قبلت فكرة الانتظار طويلا. فقد اجتمعت شروط التخلف والدونية، فالتصقت بالعالم الإسلامي التصاق الجرب بالجلد. لكني أقترح عوضا من ذلك مهدوية أكثر إيجابية وفاعلية. إنها مهدوية الأمة نفسها التي لا تتطلب انتظارا. هي مهدوية تتوافق مع منطق القرآن والتاريخ وقوانين الكون. ويفرض علينا كل ذلك الخروج الجماعي من مآزق التاريخ ومدلهمات الواقع. المهدوية في حقيقتها فكرة غير انتظارية، إذ هي من مشتقات الاهتداء، وهو من معاني الرشد. وبإمكاننا من خلال تعريف المهدوية بالرشد أن نقول إن الذين قاموا بإنجازات سياسية وعسكرية وفكرية وعلمية عظيمة لعموم الأمة وغيرت مسارها، مثل الغزالي وصلاح الدين وابن تيمية وابن خلدون وابن الهيثم كانوا مهديين ومنتظرين. فقد لبوا حاجات الأمة وسدوا الخلل فيها، وحلوا مشكلات كبيرة.
وهذا في النهاية هو الدور المفترض للمهدي في أول الزمان أو في آخره. وهو أن يحل مشكلات المسلمين. كل هؤلاء وأمثالهم في الحقيقة مهدي منتظر في نفسه.
أريد في هذا المقام أن أستثني إيران من قاعة الانتظار الكبرى، وإن كانت فكرة المهدوية والانتظار عنوانا عريضا لها. إيران ليست انتظارية من الناحية الواقعية، بل هي في قمة التحفز للدفاع عن مصالحها ونفوذها. لكنها انتظارية فقط من ناحية الوعي الديني المذهبي، وهذا لا يعطل مشاريعها في المنطقة. إن عقيدة المهدي بالنسبة للإيرانيين شبيهة إلى حد كبير بفكرة الهرمجدون لدى المحافظين الجدد. إن الجميع مسرع ومتحفز في الحقيقة. ويبدو نجاح المشروع النووي هو ذلك المهدي المنتظر.
المنتظرون على وجه الحقيقة هم العالم السني الأغلبي، لقلة جاهزيتهم وترددهم في كل المجالات. وهم على خفة اعتقادهم في المهدي أكثر بطأ من أولئك المغرمين العاشقين للمهدي.
لقد حدث العكس تماما عندما سرعت ولاية الفقيه كل الأنشطة وولدت الفاعلية الفارسية. وباتت إيران في المنطقة تعمل على تسريع وتيرة الأحداث، في حين يعمل السنة على تبطيئها.
المهدوية الناجزة
نجح بعض من ادعى المهدوية في التاريخ لأنه لم يكن انتظاريا. نجح لأنه لم يكن يشتغل وحده، بل كان شخصا جمعيا في فكره وسلوكه. نجح لأنه واقعي وتمكن من تجاوز فرديته وأصبح عنصرا من عناصر الأمة. وعندما تنظر إلى أحد المهدويين الناجحين في التاريخ مثل المهدي بن تومرت صاحب الدولة العظيمة، سوف تجد سلوكه جماعيا منذ البداية. سوف تجد عقلا جماعيا، بل إن ابن تومرت هو من عمل على جعل عبد المؤمن بن علي رمزا كبيرا.
ربما كانت الكرامات أو الخوارق التي تنسب إليه صدقا أو كذبا آخر ما كان يهمه، بل هي أضعف جانب في شخصيته الدينية والسياسية والعسكرية مقارنة بقدرته على إقناع الناس بمنجزاته من خلال حاله الذي لم يتغير بعد انتقاله من الدعوة إلى الدولة. وهو صاحب كل السلطان ويأكل خبزا بزيت قليل حتى آخر أيامه ويلبس الصوف ويحرك الجموع.
عندما نفكر بمنطق المهدوية نكون بذلك ضد مفهوم الأمة. وكل تفسير للتاريخ من منطلق دور الفرد وحده وبطولاته واستثنائيته وحده هو تفكير مهدوي، يولد مزيدا من الانتظار.
إن رجلا استثنائيا مثل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان معه رجل لا يقل استثنائية مثل القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، الذي كان يوصف بأنه هو الدولة الصلاحية نفسها. ويوصف أيضا بأنه كان يمين المملكة. وعندما نقرأ وصف العماد الكاتب الأصفهاني للقاضي الفاضل في إحدى المناسبات نجد صعوبة في التمييز بين أوصافه وأوصاف الملوك. وعندما يذكر سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت عليك أن تعلم أن الذي وضع خطط المعركة كان هو الظاهر بيبرس. وهو الذي كسر مقدمة جيش المغول منذ بداية الاشتباك. هكذا يتحرك التاريخ من خلال المجموعات لا الأفراد المنتظِرين والمنتظَرين. لقد كان ابن تومرت واقعيا أكثر من كونه تصرف باعتباره مهديا منتظرا.
كاتب مغربي
إذا كان هناك مهدي سيأتي في آخر الزمان، ففي نظري المتواضع أنه لن يأتي بلحية ليفتي في أمور الدين للناس، بل عليه أن يأتي بالدليل عن أي الرسالات السماوية هي الأصوب وهي الحق، وبما أن قدومه هو إعلان عن بداية العد العكسي لنهاية العالم، فإذن عليه أن يأتي بشيء يدل على قرب هذه النهاية ليقنع العالم، فيبشرهم وينذرهم.
مقال مهم..
اعتقد ان الظروف، و تحديدا السياسية منها، هي التي احيت ” الصحوة” و هي التي ” ثلجتها ” !
مقولة ” أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” قد تنطوي على تفسير كثير من الانكفاء الاسلامي و انتظاره ، نحن اليوم امام سياسة دولية تتدخل في تفاصيل السياسة المحلية ، و السلطان من هذه التفاصيل!
استثنيت ايران من الانتظار المهدوي، و لست ارى سببا وجيها لذلك لأن تحركها لنفسها و ليس للامة ، و يتقاطع في غير الظاهر مع مصالح اعداء الامة!
فليتها انتظرت مع من ينتظر و لم تتحرك ضد تحركه ..!
شكرا لك استاذنا .. مقالة قيمة و مهمة.