«على هذه الأرض ما يستحق الحياة «هذه كلمات محمود درويش الخالدة من شعره العابر للزمن. تذكرت محمود درويش في مكان لم أكن أتصور أنه سيطل عليّ فيه وهو، مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير، حيث كنت أحد المحكمين في المسابقة الدولية. كان يمثلها ستة فنانين كبار من العالم هم، ستيفن جاجان كاتب السيناريو والمخرج الأمريكي، ودانيلي لوكيتي المخرج الإيطالي، وهو من أكثر المخرجين شهرة في إيطاليا والمنتجة المغربية لميا الشرايبي، والمخرجة والمنتجة البلجيكية ماريون هانسيل، والمخرج وكاتب السيناريو المكسيكي ميشيل فرانكو والممثلة والمنتجة الصينية شين هايلو، وكلهم فازوا بجوائز عالمية متعددة في مجالاتهم.
كان علينا أن نشاهد خمسة عشر فيلما أجنبيا وعربيا. لم يكن بينها غير ثلاثة أفلام عربية هي «بين الجنة والأرض» وهو سيناريو وإخراج نجوي نجار، التي قدمت من قبل فيلم «المر والرمان» وفيلم «عيون الحرامية» الذي اختارته فلسطين ليكون مرشحها للأوسكار بعد فوزه بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2014. وفيلم «احكي لي» وهو فيلم وثائقي من تصوير ماريان خوري وفيلم «جدار الصوت» اللبناني إخراج أحمد غصين. سأتحدث هنا عن الفيلم الفلسطيني والفيلم المصري.
إنه محمود درويش الذي تذكرته والذي صادقته بحب كبير كشاعر أولا، وبعد أن فتح لي أبواب العالم العربي حين نشر روايتي القصيرة «الصياد واليمام» في العدد الحادي عشر من مجلة «الكرمل» عام 1984. كان نشر «الصياد واليمام» في مجلة مثل «الكرمل» التي يرأس تحريرها محمود درويش ويدير تحريرها الشاعر والروائي سليم بركات، ذلك الوقت أعظم الأبواب التي انفتحت لي مبكرا على العالم العربي. تذكرت محمود درويش وكنت أتمنى أن أقول ذلك وأنا أعلن فوز فيلم «بين الجنة والأرض» بجائزة نجيب محفوظ لأحسن سيناريو، لكن الوقت لم يكن متسعا للحديث عن الأوطان. ذكرني الفيلم بالمعنى العظيم لجملة درويش، في اللحظة التي تطل علينا فيها آخر مشاهده. الفيلم بإيجاز يحكي قصة زوجين شابين هما «سلمى» التي قامت بدورها منى حوا و«تامر» الذي قام بدوره فِراس نصار يريدان الانفصال بعد خمس سنوات من الزواج، فيضطران إلى عبور الحاجز الإسرائيلي من الضفة الشرقية إلى الناصرة، حيث توجد المحكمة التي ستقرر ذلك، وهناك يجد الزوج أن خطأ في اسم العائلة واسم الأب بالذات، وعليه أن يبحث عن الاسم الحقيقي أو عن حقيقة أبيه. خلال رحلته مع زوجته الفنانة الجميلة المبدعة بحق يقابلان كثيرا من المواقف بعضها متعب وبعضها مضحك، ولن أقــــف عندها كلهــا، فالرحلة تنتهي بعدم الوصول إلى حقيقة الأب، هل كان مناصرا للقضية الفلسطينية أم لا؟ وغير ذلك كثير من الضباب الذي وضع على الماضي، إخفاء للجذور بعد وجود دولة إسرائيل.
الفليم العربي الثاني في المسابقة الدولية كان فيلم «احكي لي» وهو فيلم وثائقي من تصوير ماريان خوري، يدور فيه النقاش بين المخرجة ماريان خوري وابنتها سارة الشاذلي عن الأمومة، وتواصل الأجيال لكنها ماريان خوري تعيد إلينا ماضي العائلة والأسرة والحياة المصرية بين الأمس واليوم.
الفيلم رحلة بحث عن الجذور، من أجمل المشاهد لقاؤهما بإسرائيلي وزوجته قد تعطلت سيارتهما ويطلبان منهما أن يأخذانهما معهما في الطريق، فيقولان إنهما إسرائيليان، ولن يأخذانهما معهما فيقول الإسرائيلي أنا لست إسرائيليا لكنني يهودي ويأخذ زوجته ويسرع إلى السيارة، بدون انتظار بينما سلمي وتامر يقفان يبتسمان. هي جملة سواء قالها الإسرائيلي عن حق أو خداع، فهو يعرف أن اليهودية غير الاسرائيلية، أو غير الصهيونية وقبولهما في السيارة يعني أن الأرض تتسع لكل الأديان، وأن المشكلة هي في العنصرية وقيام دولة صهيونية لا ترى حقا لغيرها في الأرض، حتى لو كانت أرضه، بينما صاحب الأرض غير عنصري. هذا المشهد الصغير يعطي الفليم أبعادا إنسانية كفيلة بأن تكون مدخلا في الغرب، لو تم عرضه هناك إلى التعاطف مع الفلسطينيين الذين لا يجدون مشكلة مع يهودي، أو مع الدين، لكن مع العنصرية الصهيونية.
تنتهي الرحلة بالفشل نتيجة الغموض الذي تتعارض فيه أقوال كل من عرفوا الأب ويعودان إلى المحكمة للطلاق وينتظران دورهما للدخول إلى من سيقوم بذلك، ويتم النداء عليهما أكثر من مرة، فلا يتحركان من مكانهما ولا يدخلان للطلاق. لم يصلا إلى ماضي الأسرة. ماضي الوطن الذي تشوهت جذوره عمدا، لكنهما سيتمسكان بالبيت. بيتهما. فبيت يعني وطنا. لا ينفصلان ويصران على الاستمرار في حياتهما الزوجية تمسكا بالبيت الذي هو الوطن، الذي مهما ضاع أو تم تشويهه فعلى هذه الارض ما يستحق الحياة.
بصراحة قد لا تهم أحدا فالذي جعلني لا أتحدث عن مقولة محمود درويش وأنا أعلن فوز الفيلم بجائزة نجيب محفوظ لأحسن سيناريو، هو أن دمعة كادت تقفز من عينيّ، وخفت أن لا أستطيع الكلام. هي الدمعة التي قفزت من قبل مع المشهد الأخير ومسحتها في ظلام السينما . شكرا للمخرجة نجوي نجار وللفنانة الرائعة جدا منى حوا وللفنان فِراس ناصر. إن الفنانة منى حوا تستحق الكثير من الثناء لأدائها الرائع غير العادي.
الفليم العربي الثاني في المسابقة الدولية كان فيلم «احكي لي» وهو فيلم وثائقي من تصوير ماريان خوري، يدور فيه النقاش بين المخرجة ماريان خوري وابنتها سارة الشاذلي عن الأمومة، وتواصل الأجيال لكنها ماريان خوري تعيد إلينا ماضي العائلة والأسرة والحياة المصرية بين الأمس واليوم. في الفيلم يطل الحوار مع عائلة الأم ماريان خوري وأخوتها وغيرهم، ومن بينهم يطل خالها المخرج يوسف شاهين. الفيلم بصريا رائع بصوره القديمة وشخصياته التي تعبر عنها الصور في طفولتهم وصباهم وشبابهم، والفيلم يمر عليك بسرعة، فالانتقال بين الزمن والمتحدثين فيــــه كثير جدا من البراعة السينمائية، وتعدد لغة الحديث بين الفرنسية والعربية وقليلا الإنكليزية بين الشخصيات يعكس الروح الكوزموبوليتانية، التي كانت عليها مدينة الإسكندرية يوما وهي أصل العائلة، من أجمل مافي الفيلم ارتكازه أحيانا على التأكيد على الأحداث والوقائع القديمة بمشاهد مما صوره يوسف شاهين، وقالته شخصيات أفلامه من الممثلين، وهي طبعا ليست شخصيات الفيلم التسجيلي الحقيقية لكن المشاهد تؤكد ما نراه بأن شاهين أيضا عبر عنه من قبل في قصص أفلامه. فيلم وثائقي يعتمد أحيانا على مشاهد من فيلم روائي، إنه أمر جميل ومثير يقربك من الشخوص والأحاديث.
لم يفز الفيلم في المسابقة الدولية، ليس لأي سبب فني إلا أنه كان من الصعب على اللجنة ان تقارن بينه كوثائقي والأفلام الروائية الأخرى. بين الحقيقة والخيال. أربعة عشر فيلما من الخيال، وفيلم واحد من الحقيقة كان لابد أن تفوز فيه أفلام الخيال، لكن الفليم فاز في مسابقة أخرى بجائزة الجمهور، ما أسعدني شخصيا وبالفعل كانت القاعة يوم عرض الفيلم ممتلئة عن آخرها، فضلا عن الواقفين، مما لم يفز به أي فيلم آخر، فماريان خوري وعائلتها تاريخ في السينما، فضلا عن الجانب الفرنسي في أصول العائلة الذي جعل القاعة من الأمام تمتلئ بالفرنسيين، وبينهم السفير الفرنسي نفسه في مصر. تحية لمن صنعوا هذين الفيلمين على اختلاف نوعهما الفني فلقد أثريا المهرجان أيما ثراء.
٭ روائي مصري