ربما تكون الدورة الخامسة والأربعون لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، هي الحدث الفني الأهم الذي يأتي في نهاية السنة من كل عام، ولعله الختام المسك للفعاليات والأنشطة الثقافية التي جرت على الساحة خلال الفترة الماضية، فهي على كثرتها باتت تُعاني من بعض الأمراض المُزمنة التي تلاحقها، خاصة ذلك المرض العُضال الذي يتمثل في ضعف الإمكانيات وعدم توافر موارد مالية كافية لتغطية التكلفة المُتفاقمة باستمرار.
وتُعد هذه الإشكالية، الأكثر أهمية بالنسبة لأي نشاط ثقافي دولي أو محلي، فالنجاح يتوقف على مدى قُدرة القائمين على المهرجان على توفير الحد المطلوب من التكلفة لزوم الدعاية والتنظيم والدعم العيني واللوجستي، لإعادة الثقة والحفاظ على المكانة الإبداعية والأدبية والتصنيف الدولي بين المهرجانات الأخرى المنافسة.
يأتي ذكر هذه الجزئية بالتحديد على خلفية التصريح الأخير لرئيس المهرجان الفنان حسين فهمي، الذي أكد أنه رفض أي دعم من جانب الشركات العالمية المُدرجة في قائمة المقاطعة بقرار شعبي، تضامناً مع الشعب الفلسطيني في حرب الإبادة الظالمة، التي اشتعلت ضده منذ ما يزيد عن العام داخل الأراضي الفلسطينية المُحتلة، سواء في غزة أو أي من المُدن الأخرى. ولأن الدورة 45 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي تُعلن تضامنها الكامل مع الشعب الفلسطيني الشقيق وتُدين بلا مواربة العدوان الإسرائيلي السافر على الأراضي والسيادة الفلسطينية، يأتي تصريح رئيس المهرجان بعدم قبول الدعم من أي جهة متورطة في الحرب، بشكل مباشر أو غير مباشر، مُتسقاً مع السياسة العامة للمهرجان العريق ومتوافقة بكل تأكيد مع قناعات الفنان حسين فهمي، واللجنة العُليا التي تُحدد سياسات المهرجان الرسمي للدولة وتُعبر عن رأي الجماعة الثقافية في الأحداث الجارية.
وقد ثبت صدق الرؤية التضامنية للحدث الثقافي والإبداعي الكبير، من خلال اختيار الفيلم الفلسطيني «أحلام عابرة» للمخرج رشيد مشهراوي للعرض في حفل الافتتاح كعنوان رئيسي مهم ودال للدورة الـ45 الفارقة، التي تُقام وسط أجواء سياسية عاصفة تشهدها المنطقة العربية بصفة خاصة ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة. وربما يأتي التزامن الدقيق لفعاليات المهرجان الرسمي لمصر واختيار فيلم فلسطيني بالتحديد للعرض في حفل الافتتاح، مع فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية كهامش مهم وموحٍ بموقف القاهرة من القضية الفلسطينية، كنقطة أساسية وجوهرية في العلاقات المصرية الأمريكية، فالمهرجان ليس حدثاً عابراً، وإنما هو ترجمة حرفية لرأي الكُتاب والمُثقفين والفنانين والمُبدعين وعموم الشعب المصري في ما يحدث في غزة من مجازر وحرب عرقية يُديرها نتنياهو بقسوة ووحشية ضد الصغار والكبار والنساء والشيوخ في الأراضي الفلسطينية المُحتلة. لذا فإن الإشارات السياسية التي تحملها الأنشطة الثقافية، لا بد أن تؤخذ مأخذ الجد، ويكون لها الاعتبار الأهم كرسالة ضمنية تحمل الكثير من الدلالات، وبالقطع سيكون لها أثر واضح في وسائل الإعلام العالمية، خاصة أن الحرب ما زالت مُستمرة والشهداء في فلسطين يرتقون بالمئات على مدار الساعة.
تركز الدورة الخامسة والأربعون لمهرجان القاهرة السينمائي هذا العام على بعض الجوانب المهمة، أولها كما أسلفنا المُشاركة الفلسطينية القوية في العروض، سواء في المسابقة الرسمية أو في مسابقة آفاق السينما العربية كتقليد سنوي ضروري ومُعتاد لإلقاء الضوء على نوعية الأفلام العربية ومستواها الفني الجيد والمتطور، حيث اللافت في هذه الدورة هو الإنتاج العربي ـ الأوروبي المشترك أو الإنتاج العربي ـ العربي كما هو الحال في فيلم «أرزة» للمخرجة ميرا شعيب، كنموذج للتعاون الإنتاجي اللبناني المصري المُشترك وفيلم « الإجازات في فلسطين « للمخرج مكسيم لندون إنتاج فلسطيني ـ فرنسي.
وكذلك فيلم «قنطرة» للمخرج وليد مطار إنتاج تونسي ـ فرنسي، وبالإضافة إلى الأفلام ذات الإنتاج المُشترك توجد أفلام أخرى بإنتاج مستقل كالفيلم السوري «سلمى» للمخرجة جول سعيد والفيلم المصري «مين يصدق» للمخرجة زينة عبد الباقي والفيلم السوداني « مدنياااااااو للمخرج السوداني محمد صبحي، الذي يُسلط من خلال رؤيته السينمائية الضوء على كفاح الشعب السوداني في أحداث الثورة السودانية. ويأتي الفيلم الفلسطيني الإنساني «حالة عشق» للمخرجتين كارول منصور ومنى خالدي كحالة سينمائية خاصة، تعتني برحلة ومسيرة طبيب فلسطيني يقطع مسافات طويلة من أجل أداء رسالته الطبية المُقدسة في تفان منقطع النظير يضرب به البطل أروع الأمثلة في احترام الإنسان لعملة ومهنته.
ويبلغ عدد الأفلام المشاركة في مهرجان القاهرة خلال دورته الخامسة والأربعين 194 فيلماً من 72 دولة، حيث تتميز الأفلام بالتنوع ما بين السياسي والاجتماعي والإنساني، ويخصص المهرجان أيضاً حفلات معينة لعرض الأفلام الكلاسيكية المهمة، كـ»بداية ونهاية» و»القاهرة 30» و»السمان والخريف» و»شيء من الخوف» و»الحرام» و»الزوجة الثانية» و»بين القصرين» و»قصر الشوق»، لإبراز التحولات الاجتماعية والسياسية الفارقة والمؤثرة في حياة الشعب المصري. ومن الجدير بالذكر حرص المهرجان هذا العام على تكريم المخرج يسري نصر الله بمنحة جائزة الهرم الذهبي، لإنجاز العُمر وتكريم الفنان أحمد عز بمنحة جائزة فاتن حمامة للتميز. وسوف تنتهي فعاليات المهرجان الذي يستمر حوالي عشرة أيام في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.