كان ـ «القدس العربي»: الصداقة الحقة لا تتوثق عراها سريعا. إنها رحلة لشخصين ينضجان معاً، يواجهان الحياة ويعركانها، ربما يختلفان أو تنفصم عرى العلاقة بينهما ليعودا معاً وقد صقلتهما التجارب والحياة. يتناول فيلم «الجبال الثمانية» للمخرجين البلجيكيين فيليكس فان غرونينغين وشارلوت فانديرميرش، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الخامسة والسبعين (17 إلى 28 مايو/أيار الجاري) مثل هذه الصداقة. «الجبال الثمانية» فيلم رحب ممتد مهيب مثل جبال الألب في إيطاليا، التي تدور وسط قممها أحداث الفيلم، التي شهدت مولد الصداقة بين الصبيين بييترو وبرونو واحتضنتها.
الفيلم مقتبس عن رواية ذائعة الصيت بالاسم نفسه للإيطالي باولو كونييتي، وهو فيلم ينفذ إلى أعماقنا ويتغلغلنا، وينقلنا إلى عالم رحب من التلال والوديان والقمم وجبال الجليد، التي تحتضن صبيين يحاولان فهم ذواتهما واكتشافها كما يكتشفان الجبال المحيطة بهما. طبيعة خلابة، قاسية أحيانا، رحبة في الكثير من الأحيان تجذبنا لها كاميرا روبين أمبين مدير تصوير الفيلم، الذي جعل من جبال الألب لوحة بصرية ممتدة.
يبدأ الفيلم بصوت راوٍ، يتضح لنا لاحقا إنه صوت بييرو (لوكا مارينيلي) متذكرا طفولته وأبويه وماضيا جمعه بصديق طفولته برونو. نسمع كلمات الراوي فنستشعر حنينا وحزنا، حنينا إلى ماضٍ ذهب، وحزنا يبدو كرثاء لعزيز. لا نعلم منذ البدء مصير تلك الصداقة بين الصبيين، لكننا نستشعر رثاء وحنينا في صوت الراوي. إنها صداقة بدأت في ثمانينيات القرن العشرين، في صيف بلدة صغيرة تحتضنها جبال الألب في إيطاليا، بين صبي يأتي من مدينة تورينو ليمضي عطلة مع والدته بينما يمضي والده جلّ وقته في العمل في المدينة ويأتي لزيارتهما حينما يتمكن من ذلك. بييترو صبي وحيد يلتقي في تلك القرية النائية، التي هجرها سكانها سعيا للرزق في المدينة، صبيا وحيدا آخر، هو برونو، الذي هجره والده للعمل في دولة أخرى. تتوثق عرى الصداقة بين الصبيين على اختلافهما، أو بسبب ذلك الاختلاف. بييترو، الطفل الوحيد القادم من المدينة، أكثر ميلا للقراءة والسكون، بينما برونو، الذي نشأ وسط الطبيعة، يتمتع بقدرة أكبر على التعامل مع الجبال الواعرة والحياة البرية، لكن هذا الاختلاف لا يمنع الصبيين من التقارب والانغماس معا في الطبيعة المحيطة بهما.
يأتي والد بييترو، وهو مهندس يتولى إدارة مصنع في تورينو، إلى القرية الجبلية ليمضي عدة أيام مع زوجته وابنه وسط الطبيعة، وليمارس هوايته المفضلة في استكشاف قمم جبال الألب المحيطة. يتعرف الوالد على برونو صديق ابنه، ليكتشف فيه صبيا نابها ذكيا، فيعرض على أسرته أن يتكفل به ويستضيفه في تورينو مع ابنه وأن يتولى مصاريف ومتطلبات تعليمه. رغم حب بييترو لبرونو، إلا أنه يغضب من سعي والديه لنقل الصبي من قريته إلى المدينة في صحبتهما، فهو يعلم أن صديقه نشأ وسط الطبيعة والجبال، وأن روحه رحبة صلبة كتلك الجبال التي يعيش وسطها، لكن المدينة ستسجنه وتحطم روحه. تمر أعوام على ذلك الصيف في الثمانينيات، ولا يلتقي الصبيان على مدار أعوام. يشب بييترو (الذي يلعب دوره باقتدار كبير لوكا مارينيلي) ليحاول أن يكتشف ذاته في مدينة لا يجد فيها ما يستهويه، فينتقل من عمل بسيط لآخر، فيعمل في حانة تارة وفي مطعم تارة أخرى. وعلى حين غرة، تجمعه الصدفة ببرونو (أليساندرو بورغى) فيتذكر وجه صديق الطفولة على الفور، ويكتشف أنه يعمل وسط الجبال والغابات، يرعى الأبقار أو يبني البيوت من الخشب. ربما تكمن المفارقة في الفيلم في أنه بينما يحاول كل من بييترو وبرونو فهم ذاتيهما ومكانيهما في الحياة، فإن ما يعيد لم شملهما هو الموت. يتوفى والد بييترو، تاركا وصية لبرونو أن يبني بيتا وسط الجبال بالتعاون مع صديق صباه. يعود الصديقان لينفذا وصية والد بييترو. ولم يكن المنزل الذي يبنيانه معا مجرد عمل، بل رحلة اكتشف فيها كل منهما نقاط قوته وضعفه. وسط الجبال والمهام الشاقة التي يتطلبها بناء البيت تعود صداقتهما لتزدهر وسط فهمها لبعضهما بعضا. هما شخصان يكملان بعضهما بعضاً ويتعلمان من بعضهما بعضاً. وكالجبال التي تصمد وسط الأنواء والتقلبات والتي قد تجرف الرياح بعض صخورها، إلا أنها تظل شامخة، تبقى الصداقة بين بييترو وبرونو. إنه فيلم ممتد، تقارب مدته ثلاث ساعات، لكن تحت إدارة فان غرونينغين، صاحب «دائرة الانهيار المحطمة» (2012) الذي أبكانا وأدخلنا وسط عالم من الألم والحزن لأب وأم فقدا صغيرهما، بالاشتراك مع فاندرميش في هذا الفيلم، نجد أنفسنا منغمسين وسط هذه الصداقة ومع محاولات كل منهما لفهم ذاته والعالم، فنشعر أن مدة الفيلم تمضي في لمح البصر.
وما كان الفيلم ليكون بمثل هذا التأثير الكبير دون الأداء الملهم لمارينيلي وبورغي للشخصيتين الرئيسيتين. مارينيلي بنظرته المتأملة المطرقة الحزينة، بهدوئه المتفكر، وبعزمه على اكتشاف العالم والعثور على ذاته وسط رحلته في جبال العالم، هو الشق الثاني المكمل للمهارة اليدوية والقوة الجسدية لبورغي. إنها صداقة تقوى وتستمر رغم اختلاف الشخصيتين، أو ربما يمكننا القول إن ما يثريها هو هذا الاختلاف في الشخصيات والنزعات والقدرات. ربما يمكننا القول إن «الجبال الثمانية» هو الحياة بقممها ووديانها وأنهارها، هو ذرى البهجة التي لا يمكن أن نشعر بها إلا بعد هوة سحيقة من الحزن، بينما تمضي الحياة في مجملها كالوديان التي تحيط بها تلك القمم الشامخة.