كان اللقاء زاخراً بالمكتشفات مثل مهرّج يتماثل للنوم، دون أن يفعل. كائنات تمسك النار من أطرافها، كمن يمسك أهداب شرشف السرير، لكي يسوّي الفراش لنومٍ آخر. ثمة من كان يتثاءب محاولاً رشوة المستقبل لئلا يتأخر.
قال أحدهم: لكن المستقبل يأتي على كل حال،
الحلم والوقت كفيلان بذلك، فلنجرّب نوماً ثانياً.
استغرب شخصٌ آخر: لماذا إذن يتأخر بهذا الشكل، إنني أجلس على جادة الطرقات طوال السنوات، دون أن أشعر بحضور المستقبل، ثمة خلل في التوقيت.
قال الثالث: لا، الخلل في المواصلات، فالمستقبل يحتاج دائماً لمن ينتقل إلى المحطة التالية، والمشكل أننا لم نزل في المحطة السابقة دون أن نتأكد من العربة، هل جاءت وغادرت، أم أنها لم تأت بعد.
التفتتْ الصبيّة ذات الرداء المزخرف: هذا شارعٌ مزدحم بالعربات، هل تعرفون أي عربة بالضبط يتوجب علينا أن نستقلها؟ تبرع أحدهم بموعظة الأعمى الذي يكرز في كتيبة من العور: كان عليكم أن تقفوا في الرصيف على يمين الطريق، فقد كفّت العربات عن التوقف في محطات هذه الضفة، ثم إنكم ما زلتم لا تكادون تلمحون العربة، لفرط سرعتها وفداحة بطء إدراككم. لقد تم نقل المحطات جميعها إلى يمين الشوارع.
استغرب المستغرب: لكن عهدنا بنظام السير يساراً، كيف حدث أن تغير ذلك دون إبلاغنا؟
صدرت قهقهة من شخص تبدو عليه علامات الاستغراق في وهدة ما قبل النوم: من يعرف، ربما تحتم علينا أن نقف في وسط الشارع لكي نجرب ما إذا كانت الحافلات قادرة على دهسنا بالفعل، أم أن الأمر لا يعدو الترهيب والترغيب.
صرخ بهم فتى متهور يفشل دائماً في تصنع الرصانة: المستقبل لا يأتي، علينا أن نذهب إليه.
بُوغت البعض بطرافة الصورة، ها هي البلاغة تتحكم في اللقاء.
مستقبلٌ علينا أن نذهب إليه، لم لا، الفكرة جميلة، والصورة أيضاً. نشبك أيدينا جميعاً، ونشكّل حلقة كبيرة تسع الجماهير والحافلات ودواجن الحق العام وكتبة عرائض النوم ومتعهدي غسل الموتى والبكاء الذي يخدش العرس، ونزحف نحو المستقبل، عندها لن يكون أمام المستقبل خيار سوى أن يقبلنا.
ضربت المرأة بكفها الطرية على الطاولة صائحة:
لا أثق بمن يقف في المحطات، عليكم أن تشعروا بالخجل لكل هذا الانتظار، ومن يرغب بقيادة رعاع الهيكل إلى المستقبل عليه أن يرتدي ريشة الغراب وينساني. لديّ طريقتي في الذهاب.
التفت إليها الجميع، يريدون أن يعرفوا طريقتها في الذهاب.. لكي يذهبوا.
أثناء ذلك أخذ النادل يوزع ورقة العناوين الخاطئة على الحضور، دائرة صغيرة من الورق المقوى يضعها تحت أقداح الجعة التي يوزعها أمام الجميع. تنهض المرأة باحثة في حقيبتها عن نظارة سوداء تثبتها على عينيها، وتنظر بتفاؤل كثيف للمستقبل وراء زجاج النافذة، تدق بكعب حذائها الرشيق على قشرة الكرة الأرضية وتترك المكان.
ينسلّ الحضور واحداً بعد الآخر مغادرين، بعد أن يرفع كل منهم قدحه، يكرعها دفعة واحدة، ويتناول الورقة ذات العنوان الخاطئ، معلناً ثقته الفائقة في أن الصواب ليس في العنوان، لكن في الذهاب، الطريق والطريقة.
هل أخذتَ العربة الخطأ ذاهباً على الطريق الصحيحة إلى المحطة الصائبة، فربما يفتح لك درس الخطأ جماليات التجربة.
قال رابع: ربما علينا التأكد من وجود العربة أصلاً.
كان اللقاء زاخراً بالمكتشفات والمهرج في كوابيس اليقظة.
يصحو، يستيقظ، ثم يتماثل للنوم.
غير أن السيرك قائم على أشده.
والمستقبل هناك، وشيكٌ، ينظر.. وينتظر.
شاعر بحريني