حين تقرأ عنوان المقال من غير ضبط لحركاته أكيد أنك ستقرأ (مَهْر العَريس) لأن الغالب على شكل (مهر) في هذا السياق هو كونه رديفَ الصداق، وهو مال تأخذه العروس آجلا أو عاجلا. ولكنك ستعجب لا من المهر، بل من نسبته إلى غير ما يناسبه فبدلا من أن يقال مهر العروس قيل ما قيل في العنوان.
لكن ماذا لو كنت أنوي لا (مَهْر) (مهر) بل (مُهْر) وهو أول ما ينتج من الخيل، أو كنت أريد (مَهَرَ) ومَهَرَ في الشيء بمعنى أجاد فيه، ومَهَر الشخص نافسه، ومهر العريس عروسه أعطاها المهرَ، أو مهر العريس الرسالة أي بصمها بالخاتم، وماذا لو كنت أريد (مُهِر العريس) أي الشيء أو شخص الذي جعله يَهِر في معنى صوتَ أو عبسَ. مثلما ترى أن العنوان وهو منزوع الحركات يقبل لهذه القراءات وغيرها وسيزول هذا الإشكال لو ضبطنا حركات العنوان وسكونه.
ضبْطُ الحركات على الكلمات في العربية مهم جدا عند كتابتها، ويسمى شكلا والشكل، وإن غلب على ضبط الحركات فإن من معانيه أيضا ضبط النقاط وهو يسمى إعجاما، واشتهر بهذا الاسم. ويلتقي الشكل والإعجام في معنى إزالة الإبهام ونفي المشكل، لأن من شأن التنقيط، وضبط الحركات أن يجنبا الإبهام واللبس عند القراءة وفك شيفرة المكتوب. النقطة على الحرف ليست إلا رمزا متأخرا للتمييز بين الحروف المتشابهة، فقد كانت النقطة رمزا للحركة قبل أن يرمز للحركات بالخطوط أو بأبعاض الحروف مثلما نرسمها اليوم، لكن هذه الرموز عموما أخذها أهل الخط من الهندسة فالحركات والسكون، وكذلك النقاط التي على الحروف أو بين يديها، أو تحتها هي، رموز تدل على أمرين مهمين عادة ما ينسيان، أولهما أن الكتابة التي ترسم بها الحروف العربية هي شكل متطور من الكتابة خرجت فيه عن حالتها الأصلية: حالة التصوير الخطي للأفكار فباتت الحروف تصويرا رمزيا للفظ، وليست تصويرا أيقونيا للأفكار مثلما كان عليه الأمر أول أحوال الكتابة. فالكتابة العربية هي رموز للأصوات، وإذا قلنا إنها رموز فذلك يعني أنه لا رابط بين شكل الحرف وحقيقته الفيزيائية، فلا شيء يمكن أن يبرر لحرف الباء أو الحاء بأن يرسم بالشكل الذي نرسمهما به. قديما كان في صورة الحرف شيء يدل على دلالته كان الخط مفيدا في الكتابة التصويرية، حين كان رسم الألف الفينيقية (Aleph ) يشبه رأس الثور، لأن الألف تعني فعلا في الفينيقية الثور. لكن لا شيء في الألف العربية يوحي بهذا، فرغم قدم الاسم تخلص هذا الاسم وهذا الرسم من كل صلة له بالثور.
الأمر الثاني في الطابع الرمزي للحروف العربية هو ما يسمى بالصورنة، أو الشكلنة، وهو الاعتماد على الرمز لتمثيل حقيقة مجردة، وهذا يعني أن الحروف وهي تمثل الأصوات إنما تمثل حقائق فيزيائية نطقية في الأصل، ولكنها تعتمد لتمثيلها لا رسوما، بل رموزا مأخوذة من الهندسة من خط أو دائرة (السكون: يقال أيضا إنه رمز للصفر، وحتى لو كان الأمر كذلك فنحن لم نغادر باب الصورنة باستعمال رمز رياضي). العقل الذي طور الخط بأن أضاف إليه الحركات هو عقل تجريدي مُشكلن، لبعض مكونات اللغة وهي الحركات.
لكن ما الذي يجعل أغلب القراء يذهبون إلى قراءة معينة (المَهْرُ) دون أخرى؟ وبعبارة أخرى لماذا تكون كلمة (مَهْر) هي الفائزة بنسبة التوقع في القراءة عالية بالمقارنة مثلا بعبارة (مُهْر) وهي أكثر توقعا من عبارة (مَهَر) التي ستكون أكثر توقعا بدورها من عبارة (مُهِر)؟ كثيرة هي الأسباب التي تجعل القارئ يذهب مذهبا دون آخر أولها المناسبة بين اللفظين المتضايفين (أي المضاف والمضاف إليه في العنوان).
إن الثقافة التي تربى بين أحضانها قارئ العنوان هي ثقافة يدفع فيها العريس لعروسه المهر، هذه الثقافة هي التي صنعت العادة، والعادة صنعت الألفة وقراءة العنوان (مهر العريس) في ضوء هذه العادة مشكل.
لكن ما معنى المناسبة إن لم تكن فعلَ تعود بالكلام على أن بعضه يناسب بعضا بطريقة أسلم أو أكثر تقليدية؟ أن عنوان (مَهْرُ العريس) واقع بين ألفة وعدم ألفة في آن؛ فمن المألوف أن المهر جزء من العرس ولكن يهبه العريس للعروس، لكن لنفترض أن هناك عرسا جماعيا لعشرين زوجا مثلا ويعقد فيه القران في يوم واحد، وأن هناك طرفا ينظم جمع المهور من العرسان ليمنحها للعرائس وسينادي على العريس الأول ويطلب منه مهره ثم يطلبه من الثاني والثالث وهكذا دواليك، وعندئذ تصبح عبارة (مهر العريس) استعمالا سائغا لأنه سيميز بين مهر لهذا العريس وآخر. لكن الأشياء الافتراضية هذه والتي يمكن أن نسوغ بها علاقة الإضافة في (مهر العريس) بعيدة عن ذهن القارئ، لذلك يذهب إلى القراءة الاستعارية التي من نوع أن يعلق بعض الحضور على حزم العروس واستبدادها بالرجل فينسب بعضهم مهرها إلى العريس، حتى يؤكد استرجالها وذوبان العريس في شخصها.
إن من يقرأ (مَهْر العروس) لا يفعل ذلك من غير أن تسكنه الحيرة ومنبع الحيرة من استشكال الخروج من هذه النسبة غير المتناغمة لأن الكلم وهي تتعالق في التركيب، يحدث فيها مُسترسَل من الألفة والغرابة؛ وعقولنا وهي تعالج الفهم تكون مترددة بين أن تبذل جهدا كبيرا أو صغيرا، حتى تحقق ذلك التوازن الغريب الذي يجلبه الفهم ويعكره سوء الفهم.
إن الثقافة التي تربى بين أحضانها قارئ العنوان هي ثقافة يدفع فيها العريس لعروسه المهر، هذه الثقافة هي التي صنعت العادة، والعادة صنعت الألفة وقراءة العنوان (مهر العريس) في ضوء هذه العادة مشكل. غير أن القارئ لو كان في الهند مثلا، حيث تكون العروس هي التي تقدم المهر للعريس فعلا، فلن يحدث هذا الإشكال في الفهم؛ ومن هنا ترى أن العلاقة بين الفهم والإدراك والكون مترابطة ترابُطا متينا عبر اللغة. لقد قرأت أن الهنديات هن من يخطبن، وهن من يخترن الزوج وهن من يقدمن المهر له في هذا السياق لن تكون جملة (مهرُ العريسِ) أمرا مشكلا. لكن هل من دور اللغة أن تستعمل وهي تتحدث عن عادات غريبة تراكيبَ عادية لكن دلالتها غريبة؟ بعبارة أخرى ليس لنا من حل ونحن نتحدث عن مهر الهنود، إلا أن نستعمل تركيب (مهر العريس) من هذه الناحية فإن الترجمة ليست بحثا عن كلام يناسب الثقافة العربية، بل هو كلام عربي التركيب غريب الكُنه أحيانا عن الثقافة العربية. إن (مهر العريس) التي تبدو في سياق عربي خالص عبارة مُشكلة تبدو في سياق التعريب الذي يحدثنا عن عادة هندية عبارة عادية، بل مألوفة. للترجمة من الأدوار ما يجعلها تنزع بعض وحشتنا وتوجسنا من تراكيبنا الغريبة، وتبني معها شيئا من الألفة العابرة إلينا عبر جسر الثقافات. إن الترجمة وهي نقل لثقافة وافدة بواسطة لغة محلية يمر فيها النقل بقناة إدراكية، تجعل الغريب ممكنا وغير المألوف قابلا للألفة، والتركيب الذي يبدو للمتكلم الأصلي مريبا تركيبا ممكنا.. ولهذا فإن عبارة العنوان بدت لقارئها عجيبة في البداية غير أنها الآن أقل عجبا، لا لأن في الهند نساء يخطبن الرجال، ويمنحنهم مهرا، بل لأن التركيب اللغوي (مهر العريس) بات مؤنسا لا كلفة فيه ولا استعارة.
في الخبر نفسه قرأت أن من عادات بعض الموريتانيين، وهم من أبناء حارتنا الواسعة، أن تدفع العروس 90 في المئة بعد العرس، من مهر دفعه العريس أثناء الخطبة. في هذه الحالة هل نتحدث عن (مهر عروس) أو عن (مهر عريس)؟ إن كان في الأمر نسبة رياضية فإن أغلب المهر للعروس، وإن كان في الأمر نسبة لغوية فهو (مهر للعروس) يقدمه شكلا العريس، وفق مقتضيات العادات الإسلامية وسيستخلص نسبة منه لاحقا. يظل الإشكال اللغوي مطروحا: من الذي يمهر في النهاية؟ هل العريس يمهر عروسه قبل البناء؟ أم هي التي تمهره بعد البناء؟ لكن ألا تنتهي حكاية المهر بانتهاء الزواج؟
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية