الكتابة أو الإبداع الأدبي حالة إنسانية يمكن أن يشترك فيها كل الناس. كل إنسان يشعر كثيرا أنه في حاجة أن يكتب ما يزيح عن روحه الألم. ورغم أهمية أن يعرف من سيمتهن الكتابة تاريخها وتطورها، إلا أنه ليس عيبا أن يكتب شخص ما، ما يريد ويسميه قصة أو رواية أو قصيدة. تظل عملا بينه وبين نفسه، حتى يفكر أن يطرحه للنشر، فيجد من يدله إلى الصواب وإلى عيوب ما يكتبه .
هناك بعد ذلك من يستمر ومن يتوقف، والذين يتوقفون كثيرون جدا رغم أن بعضهم قد يملك المال لينشر ما كتبه. لقد رأيت ذلك حقيقة حين كنت يوما رئيسا لسلسلة «كتابات جديدة» التي بدأت تصدر من هيئة الكتاب المصرية في النصف الثاني من سنوات التسعينيات من القرن الماضي. كنت أذهب إلى مكتبي يوما واحدا أو اثنين في الاسبوع، أستقبل الكتاب فكان يفد عليّ أطياف من الناس الطيبين. أكثرهم لا يعرف شيئا عن الكتابة لكنه يكتب ويتصور أن ما يكتبه أدب. كثير منهم كان يأتي حاملا حقيبة صغيرة يخرج منها كراسة يقول لي إنها رواية، وكراسة أخرى يقول لي إنها شعر، وثالثة يقول لي إنها قصص قصيرة. كنت ألقي نظرة سريعة على أحد الكراسات واعتذر له برفق، باعتبار أن لدينا ما يكفي النشر لعامين. أغربهم قدم لي كراسة مكتوبا عليها سعر الكتاب، ولما سألته لماذا تفعل ذلك قال لي لا بد أن يفعل ذلك حتى ينتشر الكتاب. وأذكر أنه كان قد وضع السعر خمسة جنيهات بينما سعر كتاب السلسلة كان جنيها واحدا! كان هذا الكتاب في علم الفلك كما قال لي أي لا علاقة له بالسلسلة الأدبية، وقلبت الكتاب وسألته لماذا لا تضع مراجع للبحث فقال هامسا إنه يخشي ان يعرف ذلك «أمن الدولة». هؤلاء الناس كانوا يسعدونني جدا، وكنت أراهم مادة خام للحياة، رغم أنني كنت أعتذر لهم بلباقة بعد أن أعزمهم على كوب شاي أو فنجان قهوة.
هؤلاء الطيبون لا أعرف أين ذهبوا في الحياة بعد ذلك، لم أقابل أيا منهم في أى محفل ثقافي أو ندوة أو منتدى، كنت أعرف أنها الحياة المؤلمة تجعل الإنسان يكتب، تركت السلسلة الأدبية بعد سنوات قليلة، لكن ظلت ذكرى هؤلاء الناس الطيبين معي حتى الآن، وأتذكرهم الآن لسبب مؤلم جدا لا يخصهم .
أعرف أن تاريخ الأدب حافل بالسرقات الأدبية، وهذه السرقات قد تكون خفيفة فيعتبرها البعض تناصا. وقد تكون عن غير قصد من أثر المصدر على قارئه. فيمكن بسهولة أن تجد أثرا للمتنبي على المعري في بعض قصائده الإنسانية، أو التي تعنى برؤية للكون، فمن قصيدة للمتنبي تقرأ :
نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمان هي من كسبه
فهذه الأرواح من جُوّه
وهذه الأجسام من تُربه
ومن قصيدة للمعري تقرأ:
سِرْ إن اسطعت في الهواءٍ رُوَيدا
لا اختيالا على رُفات العباد
رُب لحدٍ قد صار لحدا مرارا
ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
وقبلهما طرفة ابن العبد في قوله في معلقته:
لعمرك إن الموت ما أخطا الفتي
لكالطول المُرخي وثنياه باليد
هذه مجرد أمثلة، وموضوع التأثر أو السرقة كبير وهناك كتب في التراث عُنيت به مثل «طبقات الشعراء» لمحمد بن سلام و«الوساطة بين المتنبي وخصومه» وغيرها كثير. الأمر استمر ويستمر حتى عصرنا وسيستمر، فالقضايا الإنسانية واحدة ومُغرية للموهوبين الكبار، ويمكن أن يتلاقوا عندها، كما أن البلاغة القديمة في تشبيهاتها مغرية.
وفي العصر الحديث هناك من يتأثر بقراءات في الأدب العالمي ويجد نفسه تحت تأثير فكرة ما فالأفكار الإنسانية واحدة، تتغير فقط وسائل التعبير عنها، فلا تستطيع أن تتهم كاتبا يُعنى بالاغتراب في أعماله، بالسرقة من الفلسفة الوجودية وأفكارها، أو كاتبا يعنى بالمكان، بالسرقة من الواقعية أو الواقعية الجديدة. لكن يطل لفظ السرقة حيث تجد حدثا واحدا يتكرر، وتكون السرقة أكثر وضوحا حين يكون هذا الحدث متفردا صعبا أن يجود الإلهام به لكل الناس. وما أكثر الكتاب الذين اتهموا بالسرقة، ووجدوا لأنفسهم ملاذا في مصطلح التناص، بينما الأمر «تلاص». الجانب الآخر للمسألة إنه رغم ذلك فما يُكتب في الموضوع من نقد أو انتقاد يثري الحياة الأدبية، وإذا كان المتهم موهوبا فيستمر ويجد لنفسه عزاء في ما يكتبه. هذا كله عرفناه وتعودنا عليه لكن المحزن هو ما يحدث الآن في عالم الأدب، في عالم الرواية تحديدا. الآن عشرات الروايات هي إعادة تدوير لأفلام عالمية، خاصة روايات الرعب والخيال العلمي، لكن الكارثة تمتد إلي الروايات الأدبية، فمؤخرا كشفت أنا عن سيدة مغربية اشترت رواية من كاتب هي في الأصل رواية لغيره، كان قد اعطاها له ليراجعها لغويا، لكن هناك ما هو أكبر من ذلك. هناك للأسف من يكتبون الروايات لغيرهم نظير مبالغ مالية وغيرها. ومن تُكتَب له الرواية يكون عادة رجل مال أو أعمال يرى وجاهة العصر في الرواية، وأحيانا تجد رجلا في مركز ثقافي في مؤسسة ما كبيرة. تدرك ذلك بسهولة حين تتذكر أنك لم تعرف له أبدا اهتماما بالأدب من قبل. وحين تقرأ له أكثر من عمل لا تجد ما يشي لغويا مثلا أن الكاتب واحد. الحقيقة أن من كتب وقبض المال هو من اختلف. أعرف أن هذا النوع من الكتاب ينطفئ في يوم ما، لكن ما يثير سخطي وقرفي هو أن الكاتب الحقيقي يظل سنوات طويلة ينحت في الصخر، ليجد له مكانا طيبا بين الكتاب، ثم يظهر شخص يملك المال ويلقي في وجوهنا برواية أو روايات حاقدا على كتاب الرواية الحقيقيين الشهرة والجمهور منافسا لهم في الجوائز التي لا تسمن ولا تغني من جوع فكلها محاطة بالحسد أو ما نسميه نحن في مصر «نق» ولا أنسى يوم حصلت علي جائزة الشيخ زايد وبعد عودتي من حفل استلام الجائزة، كيف اصطدمت بسيارتي من الخلف عربة نقل كبيرة فحطمت سيارتي الجديدة وحولتها لخردة بعد أن دارت أكثر من دورة، وسيارة النقل لا ترحمها لكني خرجت سالما لأني كنت ربطت حزام القيادة، وحمدت الله علي نجاتي. أيها النقاد المحترمون ألا تجدون طريقة في كشف هذه الأعمال الأدبية التي لم يكتبها أصحابها وتريحونا من هذا النكد. نحن المبدعون لو تحدثنا قالوا غيرة ولأنهم عادة أقل قيمة منا سيضعون رؤوسهم برؤوسنا في الصحف، لكن أنتم لستم منافسين ولا يمكن الاجتراء عليكم. ما أجمل البسطاء الذين قابلتهم من قبل حين كنت رئيسا لتحرير سلسلة كتابات جديدة. وما أبشع تجار الروايات. البائع والمشتري.
٭ روائي مصري