أكدت مواجهات غزة بعد عملية التوغل الإسرائيلية في 11 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي والتي نتج عنها اشتباك مباشر مع القوة الإسرائيلية بالإضافة لتبادل الصواريخ والقصف بين غزة وإسرائيل بأنه تمت اقامة ميزان في هذا الجانب من المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية. فإن ضربت إسرائيل وقع الرد عليها، وإن هاجمت تم التصدي لهجومها، وان سعت للاقتحام دفعت ثمنا، وإن تمادت تم قصف المزيد من المدن والمواقع الإسرائيلية. لا يمكن الاستنتاج بأنه تم تحييد كل الحلول العسكرية الإسرائيلية، لكن يمكن القول بنفس الوقت بأن إسرائيل لن تستطيع تقديم حل عسكري جذري للصراع العربي الإسرائيلي، فهي لا تملك، رغم تفوقها التكنولوجي، القدرة على فرض إرادتها على الفلسطينيين.
في الذاكرة التاريخية عشرات العمليات السرية الإسرائيلية، من أشهرها على غزة العملية المعروفة باسم «غارة غزة» والواقعة في العام 1955. تلك الغارة، التي أمر بها بن غوريون رئيس الوزراء الاسرائيلي، استهدفت البوليس المصري في غزة بهدف إرسال رسالة للرئيس عبد الناصر. وقتها كانت غزة تحت الحكم المصري منذ نكبة 1948. وقد انتهت غارة غزة بمقتل أكثر من 38 عنصرا من الشرطة المصرية ممن لم يكونوا في وضع يسمح لهم بممارسة مهام قتالية. أن سعي إسرائيل للتوغل في غزة هذا الشهر فشل في تحقيق أهدافه، بل نتج عن عملية غزة الأخيرة أزمة سياسية دفعت بوزير دفاع اسرائيل للاستقالة.
إن ما صنعته اسرائيل من تدمير لبنى الفلسطينيين القتالية في الثمانينيات ثم في العام 2002 بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية في ظل إعادة احتلال الضفة الغربية لم يغير من بنية الصراع. في كل حرب تعتقد إسرائيل بأنها انتصرت لتكتشف بأنه لا يوجد نصر حقيقي على العرب. فبعد كل هزيمة تبرز قوى عربية وفلسطينية قادرة على إعادة بعض التوازن مما يمهد للحرب التي تليها. و تخشى إسرائيل من قدرة غزة على تهديد المراكز المدنية الاسرائيلية وذلك بالرغم الحصار الخانق الذي تفرضه على غزة منذ 11 عاما. كما وتخشى إسرائيل من إيران وحزب الله بعد أن قاموا بنشر منظومة صواريخ قادرة على تدمير الكثير من المراكز الإسرائيلية. قد برز ميزان رعب بين غزة المحاصرة وإسرائيل النووية بما يجعل إسرائيل تشعر بأن أداتها العسكرية لم تعد بنفس القدرة على هزم العرب كما وقع في حرب 1967.
لقد اختفى الجيل المؤسس لدولة إسرائيل وحلت مكانه أجيال لا تريد أن تستهلك وتموت في معارك وحروب لا نهاية لها
لكن لابد من رصد تغير هام آخر وقع في اسرائيل. فالجيش الاسرائيلي المعروف بعقيدته القتالية لم يعد بنفس الحالة التي كان عليها في حرب 1967. ففي تلك الحرب كان المجتمع الإسرائيلي أقرب للمجتمع العصامي، كانت ظروفه الاقتصادية تتميز بالقساوة، بينما معظم الاحتياجات الاستهلاكية غير متوفرة للمواطن الإسرائيلي. لقد تغير هذا الجانب من خلال تحول المجتمع الإسرائيلي لمجتمع استهلاكي. بل نتج ذلك من جراء نشوء طبقة وسطى استهلاكية كبيرة تريد أن تحيا في ظل حالة رفاه. هذا التحول أثر على الحدة القتالية للجيش الإسرائيلي وعلى مفهوم الموت لدى إسرائيل، لقد اختفى الجيل المؤسس لدولة إسرائيل وحلت مكانه أجيال لا تريد أن تستهلك وتموت في معارك وحروب لا نهاية لها.
لكن مشكلة الجيش الإسرائيلي الأخرى انه مستنزف منذ عقود عدة بملاحقة شبان فلسطينيين في أزقة مدن وقرى الضفة الغربية، وهو نفس الجيش الذي يطلق النار كل يوم على المتظاهرين السلميين في غزة كما والضفة الغربية المحتلة. هذا النمط من الاستنزاف يضعف ويشتت قدرات الجيش الإسرائيلي كما ويدمر روحه القتالية وجاهزيته للحروب الأوسع. فلسطينيو اليوم أكثر عددا على الأرض التاريخية من الذين كانوا فيها عشية النكبة وحرب 1948، لهذا فحتى الصراع الديموغرافي الذي تقتات الصهيونية على تغيراته يصعب حسمه، فلا جميع الخمسة عشر مليون يهودي في العالم هاجروا للدولة اليهودية ولا الفلسطينيين استسلموا وتركوا الارض التي احتضنتهم عبر مئات والوف السنين.
والملاحظ انه وقع تحول، في هذه المعركة، في الموقف المصري. هذا التحول ساهم في إيقاف المعارك ووضع حدود على استخدامات القوة الإسرائيلية في غزة. التحول المصري مرتبط بعودة السياسة المصرية، على الاقل جزئيا، للاقتناع بأهمية غزة لأمنها القومي، وبنفس الوقت اقتنعت مصر وأجهزتها الأمنية بأن غزة لا تمثل تهديدا لمصر في القضايا الداخلية والسياسية، تلك القضايا المصرية لن تحسم الا في ظل حل مصري مصري.
من جهة أخرى وجد اليمين الإسرائيلي نفسه في موقف صعب بسبب تراجع ترامب وكوشنر وفريق البيت الابيض بعد الانتخابات النصفية الاخيرة في الخامس من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018. كما أن تصفية واغتيال الشهيد جمال خاشقجي في القنصلية السعودية أربك السياسات الإقليمية كما وأربك خارطة التحالفات التي برزت في ظل الحديث عن صفقة القرن. الانتخابات الأمريكية النصفية تربك اسرائيل بسبب حجم التداخل بين اليمين الإسرائيلي وحكومة نتنياهو من جهة وبين البيت الأبيض وفريق الرئيس من جهة أخرى. وبينما يقع هذا يزداد عدد الشبان والشابات اليهود من الجيل الصاعد ممن لديهم اسئلة كثيرة عن الدولة اليهودية والصهيونية والفلسطينيين والمستقبل. هناك مزيد من الوعي بين الجيل الصاعد والجديد من سكان العالم بأن اسرائيل لا تعاني من خطر الفناء، بل إنها من تمارس الاحتلال والتدمير والنفي بحق الشعب العربي الفلسطيني.
إن قدرة غزة على الرد الصاروخي والمسلح في ظل حصار من البر والبحر والجو هو بحد ذاته تحول هام في مجرى الصراع. لقد نجحت الارادة الفلسطينية في غزة في بناء ميزان للقوى مع الكيان الاسرائيلي، وهذا ساهم في تهيئة الاجواء لوقف اطلاق النار سريع نتج عنه استقالة وزير الدفاع الاسرائيلي.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
” في كل حرب تعتقد إسرائيل بأنها انتصرت لتكتشف بأنه لا يوجد نصر حقيقي على العرب. فبعد كل هزيمة تبرز قوى عربية وفلسطينية قادرة على إعادة بعض التوازن مما يمهد للحرب التي تليها.”
عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ)