مواجهة موضوع العلوم المهمل

عبر القرنين الماضيين طرح العديد من المفكرين العرب موضوع الإصلاح والتجديد كمدخل لخروج أمتهم من حقبة التخلف الحضاري التي وصلت إليها. لقد كانت الحصيلة تقدما نسبيا، ولكن ملموسا، في الأفكار والتنظيمات والإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لكن بقي مجال واحد جامدا في تخلفه ومهملا إلى حدود الفجيعة، وهو مجال العلم، سواء على المستويين المعرفي والتطبيقي، أو بالنسبة للأفراد والمجتمعات. يكفي أن يتابع الإنسان البرامج التلفزيونية والإذاعية العربية، وأعداد الكتب العربية الصادرة سنويا في مجال العلوم، حتى يدرك مدى الإهمال الذي أصاب هذا المجال في الحياة العربية.
وأيضا يكفي أن يطلع الإنسان على المستويات المتدنية للطلبة العرب في امتحانات ومسابقات العلوم والرياضيات الدولية، حتى يدرك المكانة المتواضعة لمناهج وتعليم العلوم والرياضيات في مدارس وجامعات الوطن العربي. تلك الجهود المتواضعة في نشر الثقافة العلمية، وفي ندرة وفقر مراكز البحوث العلمية والتكنولوجية هي أحد أهم أسباب العجز العربي أمام العلم الحداثي. ذلك العجز يبدو جليا في غياب المنظومة المتكاملة المطلوبة لترسيخ العلوم وتطبيقاتها في المجال الاقتصادي، على سبيل المثال، حيث الحاجة لحلقات مترابطة من تعليم علمي جيد في المدارس والجامعات، ومن مراكز بحوث متعمقة مبدعة منتجة للمعرفة، ومن شركات تساهم في التمويل من جهة وتقلب نتاجات البحوث إلى إنتاج مادي ومعنوي يبني اقتصادا تنمويا مستمرا من جهة ثانية. يرافق ذلك شح معيب في مقدار ما تصرفه الدولة العربية من ناتج الدخل الوطني على الأبحاث، وهو مقدار ضئيل يضع العرب في آخر قائمة الدول في مجال البحوث. كل ذلك أدى إلى تهميش أهمية إنتاج العلوم وتطبيقاتها في عقل ووجدان الفرد العربي، وهو الأمر الذي يساهم في جعله يقبع على هوامش العصر الذي نعيش، عصر الإنجازات المبهرة في حقلي العلوم والتكنولوجيا بامتياز.

فتح أبواب قلاع العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية أمام العرب أمر معقد، لكنه غير مستحيل

وبالطبع فعندما ينعدم التجذير والترسيخ للعلم، فكرا وادراكا وتطبيقا، في العقل والوجدان تصبح النشاطات الحياتية اليومية، على مستويات العائلة والعمل والعلاقات مع الآخرين والممارسة الدينية وغيرها، خاضعة للانفعالات والأساطير والأوهام، وبعيدة كل البعد عن استعمال المنطق والموضوعية وكل متطلبات العقلانية. ومع الأسف فإن تلك العلاقة الملتبسة مع العلوم الطبيعية البحتة والرياضية، لا يمكن إلا أن تعكس نفسها على التعامل مع العلوم الاجتماعية والإنسانية. هنا تتشابك هذه العلوم مع تاريخ تنخره ألف علة وعلة، ومع فقه ديني مازالت تهيمن عليه اجتهادات وتصورات أزمنة مختلفة عن أزمنتنا، ومع مسلمات اجتماعية ثقافية قبلية تنتج سلوكيات غير منطقية وغير متوازنة، ومع مشاعر بالدونية تقف مبهورة بالعلم وحضارة العلم، ولكن عاجزة عن الانخراط في إنتاجهما وفي تجديدهما. فلا غرابة ، إذن في أن يكون إنتاجنا في ساحات الفلسفة وشتى أشكال العلوم الاجتماعية والإنسانية، وفي الأدب والفنون محدودا أو تقليدا للغير. ولقد قادنا ذلك الفقر في ذلك الإنتاج إلى جعل أهم قضية في حياتنا الحالية، قضية التحديث والحداثة والعصرنة، قضية خلافات وصراعات، وقضية قبول ورفض. والسبب هو أن البعض يريدها حداثة غربية بحتة، بينما المنطق يفرض أن تكون حداثتنا حداثة عربية ذاتية تنطلق من واقعنا، ومن نظرتنا الكلية للعالم، وتراعي ثقافتنا وآمالنا المستقبيلة. وبالطبع فإن ذلك يجب على الإطلاق أن لا يتعارض مع الأخذ من والتفاعل مع حداثات الآخرين، سواء أكانت غربية أم كانت شرقية.
نحن نعلم أن ما نطالب به يحتاج إلى خروجنا أولا من الجحيم الذي تعيشه المجتمعات العربية حاليا، وأن إطفاء حرائق ذلك الجحيم له الأولوية القصوى. كما ندرك أيضا أن هناك متطلبات مجتمعية، مثل وجود نظام ديمقراطي معقول يكفل احترام الحريات المدنية والأكاديمية والبحثية، ومثل ضبط ضروري للشطط الديني المتخلف الذي مارسه البعض عبر القرون وتنقيح للولاءات الفرعية القبلية والمذهبية البعيدة كل البعد عن المنطق والعلم، لكننا نعتقد أن هناك أدوارا للحكومات والمؤسسات التربوية ومراكز البحوث والمفكرين والمثقفين يمكن أن تساهم في وضع المجتمعات العربية على العديد من الدروب التي ستودي إلى التوجه نحو حل معضلة المسألة التي طرحها الكثيرون ونطرحها في مقالنا هذا.
فتح أبواب قلاع العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية أمام العرب أمر معقد، لكنه غير مستحيل، خصوصا في عالمنا المتشابك والمتفاعل والمنفتح على بعضه البعض بصور لا حدود لها.
كاتب بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالله الفارسي:

    شكرا استاذ نا الكبير علي فخرو .. مقال جامع وشامل .. بوركت .
    لا يمكن أن يكون للعلم مكانا في دول لا تتمتع بأبسط جوانب الديموقراطية وحقوق الإنسان ..
    العلم لا يعيش في كهوف الظلم وخيام الظلام .

  2. يقول سوري:

    يقول الشاعر سيدنا الكريم وأستاذنا القدير
    العلم يبني بيوتا لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم

    كيف لنا أن نخرج من مآزقنا الجاهلية وأنظمة الخنوع والخيانة والظلم والفساد تخصص معظم ميزانيات الدولة على أجهزة المخابرات والجيش والأسلحة لقمع الشعوب وقتل المعارضين بدل ان تخصص نسبة من هذه الميزانيات للبحث العلمي ومؤسسات التعليم المحترمة.. لقد تخرجت شخصيا من الثانوية السورية جاهلا وحسبت نفسي عالما كبيرا ولم أكتشف أني جاهل إلى عندما وصلت إلى أوربا واكتشفت الحضارة.. وطريقة التعليم

إشترك في قائمتنا البريدية