منذ سنة 1993 كان الصحافي والمعلّق الأمريكي روبرت د. كابلان قد أصدر كتابه الشهير ‘المستعربون: رومانس نخبة أمريكية’، والذي كان خليطاً من النعي والرثاء والقدح والمدح، معاً؛ ليس دون التلميح إلى أنّ الكتاب يطمح، وظيفياً، إلى أداء دور مسمار أخير، يُدقّ في نعشة الاستعراب والمستعربين. اليوم، بعد عقدَين بالتمام والكمال، لا يتباكى كابلان نفسه على هؤلاء، فحسب؛ بل يتحسّر على غيابهم عن مشهد تحليل الوضع في الشرق الأوسط، عموماً، وسورية خصوصاً: ‘كانـــــت سورية مسرح اندماج التوراة بالبحر الأبيض المتوسط (…) وتوفـــرت مجمــوعة هامة للغاية من الأمريكيين الذين رأوا سورية الأصفى خلال خمسينيات القرن الماضي’، يكتب كابلان، في مقال بعنوان ‘نحتاج إلى المستعربين أكثر من ذي قبل’.
و’المستعرب’ Arabist، في سياقات الظاهرة التي أنتجته خلال التاريخ الاستعماري البريطاني والفرنسي، ثمّ صعود الإمبراطورية الأمريكية بعدئذ؛ هو ذاك المنتمي إلى رهط يختلف، في التصنيف والتعريف، عن رهط المستشرقين الذين تكفّل الراحل إدوارد سعيد بتفكيك مآربهم ومشاربهم وأجنداتهم وفضائل بعضهم وقبائح معظمهم. أو قلْ، في تسويغ اجتراح توصيف جديد يُفرد لهم خانة منفصلة أو مستقلة، إنهم تلامذةٌ أبناء، للمستشرقين الآباء؛ يسخّرون طرائق الاستشراق في خدمة الأغراض الجيو ـ سياسية والدبلوماسية والأمنية للقوى العظمى، الغربية غالباً. كذلك يمكن للبعض منهم أن يمتهن، بين حين وآخر، خدمة سلسلة من الأغراض ‘الثقافية’ في الظاهر، تظلّ بريئة حسنة النيّة حتى تسفر عن أهدافها الباطنة.
و’المستعربون’ هؤلاء متعددو المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير (وكابلان يسوق أمثلة
تالكوت سيلي ورايان كروكر وروبرت فورد، وثلاثتهم شغلوا سفارة الولايات المتحدة في دمشق!)؛ ومنهم الأديب أو ضابط الاستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار. ويكفي للتدليل على ‘تعددية’ تكوينهم أن يسرد المرء لائحة محدودة للغاية من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو ‘ملكة البدو’ في اللقب الظريف!)، توماس إدوارد لورانس (العرب)، جرترود بيل، هاري ‘عبد الله’ فيلبي، دانييل بليس (مؤسس ‘الكلية البروتستانتية السورية’ التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في اللائحة المعاصرة، ريشارد مرفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين)، والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، التي أبلغت دكتاتور العراق بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاعه الحدودي مع الكويت.
وإذْ يحنّ إليهم كابلان هذه الأيام، فذلك لأنّ الانحطاط لحق بهذه الفئة لاعتبارات عديدة؛ على رأسها العوامل السياسية التي تلازمت مع ولادة إسرائيل، والانحياز المطلق الذي اتسمت به السياسات الخارجية للولايات المتحدة والغرب إجمالاً. ولقد اتُهمت هذه الفئة بالانحياز إلى العرب ـ صدّقوا هذا! ـ أو الخلط بين عشق اللغة العربية والافتتان بحياة الصحراء، وبين الحماس للقضايا العربية أو السعي إلى تفهّم السخط العربي تجاه الغرب. وتلك حال لخّصها مرفي بمرارة ذات يوم: ‘أصبحت كلمة مستعرب ترادف مواقعة العرب فكرياً ودبلوماسياً’!
من جانبه كان فرنسيس فوكوياما، دون سواه: صاحب صرعة ‘نهاية التاريخ’، قد خصّ ظاهرة الاستعراب بتحليل أكثر تهذيباً، واتكأ على معلّمه الفيلسوف الألماني هيغل لكي يعتبر المستعربين ‘ظاهرة سوسيولوجية، ونخبة داخل النخبة، ارتكبوا من الأخطاء المنهجية أكثر بكثير مما ارتكب زملاؤهم من المختصين بمناطق أخرى في السلك الدبلوماسي. والسبب في ذلك أنهم لا يتبنّون القضايا العربية فحسب، بل يتبنّون الميل العربي إلى إيهام الذات أيضاً’! بذلك تكون حكاية المواقعة والمضاجعة والنوم في فراش العرب… أقلّ وطأة من هذا التشخيص الذي يمزج بين علم النفس والأنثروبولوجيا!
وليام ب. كواندت، الباحث والمؤرّخ المعروف المختصّ بالدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، يميل إلى إنصاف هؤلاء، عن طريق وضع تصنيفاتهم التنميطية في سياق سياسي ملموس: ‘المستعربون لا يشبهون أمثالهم من أخصائيي المناطق، في المخيّلة الشعبية على الأقلّ. فإذا أشار المرء إلى أفريقاني، مثلاً، فإنّ الصورة الناجمة سوف تصف شخصاً مختصاً بتاريخ ولغات وثقافات أفريقيا، ممّن قضى في القارة ردحاً من الزمن، ولن تتبادر إلى الذهن تداعيات تدعو إلى ذمّ الرجل. لكنّ صفة المستعرب تستدعي، على الفور، دلالة سيئة: هو ذاك الذي صرف الوقت في تعلّم اللغة العربية، أو عاش زمناً طويلاً في العالم العربي، وهو معادٍ لإسرائيل بالضرورة’!
وكاتب هذه السطور ينضوي في عداد فئة ترى أنّ محاق الاستعراب فأل خير، وليس نذير خسران كما يساجل كابلان اليوم (هو الذي كان، قبل عشرين سنة، قد شيّعهم إلى سلّة مهملات التجارب الاستعمارية الغربية، غير آسف)؛ لأنّ قضايا العرب لن تفقد الكثير من وراء تشييع استعراب ساد حقبة من الزمن، ثمّ باد واندثر، أو انقلب إلى ضدّه تماماً. وفي نهاية الأمر، كان وزير الدفاع الإسرائيلي الأشهر، موشيه دايان، هو صاحب القول المأثور: ‘كلما زاد أصدقاء العرب في الإدارات الأمريكية، توطّد أمن اسرائيل أكثر’. وأمّا أحدث دليل على صحّة هذه النظرية، فإنه ‘تعاطف’ روبرت فورد مع انتفاضة الشعب السوري؛ أو بالأحرى ذلك الاستعراب الذي يمارسه السفير، صباح مساء، على جمهرة أصدقائه المعارضين السوريين الإسطنبوليين!
كاميرون دياز مستعربة أيضا ؟!!!!