ترتفع أسهم الحق عندما يكون الباطل جلياً، بل ان الحق لا يُعرف إلا من خلال تجليات الباطل. كلنا نعتقد أننا قادرون على تسمية الحق من الباطل، لكننا نجد بعد ذلك أن كلاً منا له تعريفه لهما، وقد نشترك في تحديد اتجاههما مع قلة أو كثرة من الناس، لكن الحق والباطل في نظر من يختلف معنا في صورتهما هما غير ما نعتقد تماما.
إن التضحية من أجل ما نعتقد به ليس خيارا شائعا بين معظم البشر، لكنه في القلة القليلة مصير طعمه مر، بيد أنه ضروري لصيرورة إنسانيتهم. هكذا نرى أو نتصور أن البعض قتل نفسه بيديه من أجل أن يفضح الباطل المستور الذي أراد إدانته بينما عجز عن ذلك غالب الناس، أما البعض الآخر فيميل إلى وضع رقبته على رأس السكين إيمانا بأن هذه التضحية جزء من طقس تلطيخ يد الباطل بالدم حتى يصبح مداناً بالدليل الدامغ. هو يضحي بنفسه ويموت حتى إذا ما مات هو انتبه الناس جميعا.
من المذهل أن هذه الفكرة حملت نفسها في كثير من قصص التاريخ الخالدة الباقية. في الرواية البولسية من بولس الرسول- لقصة المسيح (ع) كان هو الخلاص الأبدي لآثام البشر الذين تطهروا من خلال التدمير والقتل ونكران المُلك الموعود، فخلقوا مجد الصليب الذي نما وتألق ليصبح رمزاً لأكثر الديانات انتشاراً على الأرض. وفي قصة الحسين (ع) برواية شيعته، كانت الحاجة الماسة لإبراز الحق الذي أوشك أن يذوي في قلوب المؤمنين به، من خلال السير في طريق الهلاك المحتوم حتى يدمغ على جباه الظلم إدانة شديدة الوضوح والألق بينما الناس كلهم نيام، وهكذا لم يعد من مجال لتسطيح خيار سبط رسول الله (ص) بأن يخوض معركة خاسرة واعتبارها محاولة يائسة لاسترداد عرش السيادة على أمة خذلت نفسها وأطهر رجالاتها، بل لا يساور العاقل شك بأن كربلاء ـ حيث قتل الحسين ونفر من مؤيديه- كانت مسرحاً لتطهيرٍ مخططٍ له لصورتي الحق المنبوذ ووحش الباطل المسيطر، وقد كانتا حتى تلك اللحظة الدامية مجالاً للشك والتساؤل، أو هذا على الأقل ما أراد المؤمنون بحكمة وبطولة الحسين أن يؤمنوا به. لقد كانوا بحاجة لقربان يضعهم ومن يقتدون به في صف الحق بدون تلكؤ وحيرة، أو أنهم أرادوا أن يشعروا بالذنب أن الحق خُذل، ليكون ذلك وقودهم للمجاهدة لإثبات أن الحق ظاهر، والباطل زهوق لا محالة. القصتان باقيتان في حاضرنا ومستقبلنا أيضا من خلال المؤمنين بهما، وهذا أكبر دليل على أن عقيدة الفداء والخلاص التي تجسدهما القصتان، لها من السحر والقدرة على التألق ما لها. في الحالتين تلك وحالات أخرى عرفتها الأديان الشرقية في مختلف العصور، كان تجسيد القربان تكراراً لرؤيا إبراهيم (ع) في ذبح ولده إسماعيل (ع)، وفي خروج موسى (ع) وقومه ليصنع ‘عجائب وآيات في أرض مصر وفي البحر الأحمر وفي البرية أربعين سنة’، كما ورد في سفر الأعمال (35/7). إنها عقيدة ‘وراثة الذنب والتضامن في الخطيئة’، كما ورد في نصوص التوراة في مواضع عدة، تعيدنا إلى حيث بدأت البشرية لهاثها المرير على سطح الأرض، إثر خطيئة آدم الأولى التي أخرجته وحواء من الجنة. عقيدة وراثة الذنب تلك أيضا لها أصل في الديانة الوثنية الهندية التي سبقت الأديان الثلاثة بقرون، وفي قصة بوذا عند الصينيين، فهو أيضا كان مخلّصاً. المصريون القدماء أيضاً آمنوا بقيامة مخلصهم بعد الموت ليكون ديّان الأموات يوم القيامة، تلك الفكرة تصر على ضرورة ظهور الصورة الجلية للحق، بأن تخرج من رحم تجليات الخطيئة القاسية أولا. وفي لا وعي كل الأمم، هناك أثر تقتفيه خيارات البشر جيلا بعد جيلا يصر على هذا الخيار المازوخي. وهكذا نتلمس في خيارات الناس كل مرة ميلاً نحو تمكين الباطل، حتى تكون تعريته ممكنة، من خلال خلاص جديد وفداء جديد، لأن الدم المسفوح هو السبيل الوحيد للكفارة.
قد يقودنا ما سبق إلى فهم اللغز الذي يدفع الثائرين والمنتفضين باتجاه الهلاك مع كل إصرارهم ويقينهم أن ذلك كان الملاذ الوحيد للخلاص، وهو ما يعني النصر في نظرهم، والانتحار في نظرنا. كما أن ذلك يفسر أيضا ميل الغالبية من الناس إلى انتظار مخلّص يضحي بنفسه من أجلهم قبل أن ينتفضوا. ربما لهذا يصر البعض على أن على الباطل أن ينتصر في الجولة الأولى، حتى يمكن هزمه بالضربة القاضية في جولة موالية. ليس ذلك بالضرورة منطلق من يضحون بأنفسهم اولاً، لكنه بدون شك ما يراه المراقبون الصامتون من بعيد. هذا المستعبد الضعيف يريد للمستبد أن يطغى أكثر حتى يسهل في ما بعد إيقاعه، وذاك يرى أن المزيد من المجازر وحمامات الدم هو كل ما يلزم لإدانة القاتل والإمساك به، لأنه لو لم يفعل فهو مشروع قاتل بدون جريمة لا أكثر، وهذه لا تكفي لإدانته، وحتى إن كان القاتل مداناً بجريمة ما، فإن ذلك الضعيف يميل إلى الاقتناع بأن على القاتل أن يقتل بطريقة أكثر بشاعة وأكثر فضائحية حتى يستحق أن يتحد الضعفاء جميعا لقطع رأسه، ولربما أن هؤلاء يريدون لمجسّد الباطل أن يتيقن من شعوره بالانتصار حتى يضعف أو يكسل ويسهل الإيقاع به. البعض يرى أن رواج الباطل في مكان ما، لابد وسيفجر نفسه من الداخل عاجلا أم آجلا، ليعطي الفرصة للحق أن يُعرف ويعترف به، حتى إن كان ذلك يعني أن ينتظر الحق طويلا ليجد من ينصره. أما البعض الذي لا يرجى منه أي أمل هو ذلك الذي يعتقد أن الباطل يناسبه، مادام السكين لم يصل لرقبته بعد. لا أدري لو أن كل ذلك يعني شيئا آخر سوى أن على الأكثرية أن يموتوا كالأضاحي حتى يمكن ليد الذابح أن تُرى بوضوح، وحتى يصبح الخلاص والتطهير ضرورة لا مناص منها.
في تلك التفسيرات دعوة مفتوحة لصنع قاتل متسلسل شديد الانحراف بيننا في كل جيل، وعند كل زاوية، لأن الشعور بالخوف والرعب من أن نصبح الضحية التالية يبدو أنه الدافع الوحيد لدى كثير منا لأن يشغّل إرادة البقاء وحاجته للدفاع عن نفسه والقضاء على الخطر الذي يفتك به. نحن ننتظر غالباً أن يرينا الله الباطل باطلا ليرزقنا اجتنابه، لكننا لن نأخذ بالأسباب لإيجاده بأنفسنا. إلى ذلك الحين موتوا اثابكم الله .
‘ كاتب وإعلامي إماراتي
محمد الهاشمي
ماذا تريد ان تقول