إذا كانت حوادث السير تتربع على عرش أسباب الموت على هذه البسيطة، فإن الانتحار هو السبب الثاني، هذا حسب إحصائيات قامت بها مراكز مكافحة الأمراض واتقائها في الولايات المتحدة، وإن كانت هذه النتائج قائمة على دراسات دقيقة نسبيا فإن الحروب والأوبئة، وما شابه، أسباب بريئة من الفتك بالإنسان، إذ يبدو أن الإنسان كائن يحب الموت عكس ما يدعيه تماما..
جامعات كندية تذهب إلى أن الانتحار مرض خطير يستلزم إحاطة المصاب به وإلا فتك بصاحبه، فيما يذهب أطباء نفسيون إلى أن الانتحار موت إرادي، وهذا معاكس للطبيعة التي تتمسك بالحياة إلى آخر رمق، هناك خلل ما لدى المقبل على قتل نفسه، في لحظة ما يحدث شرخ رهيب بين الجسد والروح فينفصلان، فتنتهي تلك العلاقة إلى الأبد، ليعود الجسد إلى ممتلكات الأرض، وتعود الروح إلى سرها.
متى يحدث ذلك الشرخ؟ نحتار اليوم أمام كم الدراسات التي تبحث في هذه الظّاهرة التي تزايدت أكثر من أي وقت مضى، حتى أصبحت أداة للاحتجاجات السياسية، وربما يعتقد المنتحر أنّه بهذه الطريقة قد يدمّر من لم يرَ حبه، أو موهبته أو إخلاصه، أو تفانيه واجتهاده في العمل.. يفكّر المنتحر في الموت طويلا قبل أن يخطوالخطوة الأخيرة نحو هاويته، ثم لا رجعة للوراء، وفي الغالب يترك رسالة اعتذار، أو تأنيب، أو كلمة للأحبة. يعرف الرّاغب في الموت أن الذين حوله سيفتقدونه حتى إن كانوا سببا في تعاسته، مصيبته يحبكها أصدقاؤه وأعداؤه وأبناء محيطه، ينعدم التواصل الحقيقي بينه وبينهم، فيختار الذهاب إلى حيث لا أحد في انتظاره منهم. التلاشي، والاختفاء بكل بساطة، حتى لا يستمر ألمه الذي لا يستوعبه أحد.
دخل مصطلح الانتحار إلينا من باب القصص، إذ لا أذكر أنني سمعت بشخص انتحر إلا في ما قرأت من قصص، روميو وجولييت أولا لوليم شكسبير، ثم بعدها بفترة طويلة اكتشفت تراجيديات اليونان القديمة، وحضور ثيمة الانتحار كطريقة احتجاج، «أنتيغوني» لسوفوكليس نموذجا، إقدام على الانتحار بسبب العجز عن التأقلم على العيش تحت سلطة من القوانين الجائرة، حيث يبدو الانتحار نوعا من البطولة، ليحضر الانتحار في الأدب لصيقا في الغالب بهذين الموضوعين، إلى أن يخبرنا الواقع بأشياء مغايرة، فالانتحار ليس بطولة، وليس طريقة احتجاج ناجعة، في بلدان تتخبط اليوم تحت نير الأزمات الاقتصادية والسياسية والحروب، يصبح الانتحار خلاصا، ولا شيء أكثر من ذلك. في الشمال الغربي من جبل فوجي في أوكيغاهارا في اليابان تأوي غابة كثيفة جثث المنتحرين، وهم يقصدونها من كل صوب وحدب، ينهون حياتهم هناك بشكل يفوق تراجيديا الإغريق سوداوية.
أيعقل أن يكون الانتحار مرضا معديا؟ ولماذا حين ينتحر أحد المشاهير ينتحر بعده عدد لا بأس به من الناس؟ هل يحتاج المنتحر لمن يشجعه على إنهاء حياته؟
في مقال طويل على موقع «الجزيرة» تصدمنا الأرقام التي تختصر عدد المنتحرين في اليابان سنويا، قبل أن تصعقنا تماما الأسباب التي تترأس قائمتها، ظاهرة التنمر في المدارس، وضغوطات امتحانات القبول، وأذكر في ما أذكر أنني تابعت تحقيقا مصورا عن نمط الدراسة في اليابان، ومعاناة الطلاب من قلة النوم بسبب ضخامة البرامج المدرسية، ما يؤكد أن سبعين حالة انتحار يوميا في اليابان رقم صغير أمام التوتر الهائل الذي يعيشه الإنسان هناك من أجل إبقاء نهضة البلد في قمة الهرم العالمي، مخافة نكسة غير متوقعة مثل التي حدثت ذات يوم في هيروشيما وناكازاكي، لكن هل هذا سبب مقنع لتحويل الإنسان إلى آلة، يجب أن لا تتوقف عن الإنتاج؟ تصعب رؤية المشكلة بمنظورنا الخاص، فالتاريخ يخبرنا عن تقاليد صارمة لشعب اليابان، خاصة الطبقة العسكرية التي كانت تلجأ للانتحار كعقاب ذاتي، إذا ما أخطأ أحدهم، كون الخطأ ممنوع في ثقافة من يخدم الحاكم، ومن نذر نفسه خادما للشعب.
وحكاية هؤلاء في حدّ ذاتها فيها من الإثارة ما يوقف نبض القلب، لكن هذا أمر آخر لا علاقة له بموضوعنا اليوم سوى من أحد أوجه فكرة الانتحار التي أصبحت تقض مضاجعنا، بعد أن تسللت إلينا كظاهرة غير مقبولة تشهد تصاعدا تباركه بعض الجهات الإعلامية من حيث لا تدري.
ضحك رواد مواقع التواصل الاجتماعي من السياج الذي وضع على جسر لمنع تزايد حالات الانتحار من عليه، لكن في زمن مضى، حدثت أشياء مشابهة، وتم تسييج جسور عديدة عبر العالم لمنع المقبلين على الانتحار بالقفز من عليها، خاصة أن الجسور هي أكثر الأماكن جذبا للمنتحرين في كل بقاع الدنيا، أذكر على سبيل المثال جسر كليفتون المعلّق (بريستول ـ إنكلترا) الذي انخفضت نسبة المنتحرين عليه للنصف بعد تسييجه بقضبان. هذا غير ظاهرة أخرى ارتبطت بصدور رواية يوهان غوته الشهيرة «آلام فرتر» سنة 1774، التي أحدثت جدلا لا مثيل له في ألمانيا، ما جعل السلطات المحلية تسحب الرواية، كون الانتحار كان من المحرمات، في ما اعتبرت الرواية تشيد به، ورغم ذلك الحظر، نجحت الرواية نجاحا ساحقا وتسببت فعلا في موجة من حالات الانتحار، وفي ما بعد بسنوات طويلة سيظهر عالم اجتماع أمريكي اسمه ديفيد فيليبس مبتكرا مصطلح «تأثير فرتر « « لوصف الظاهرة التي يؤدي بها التّوسط في الانتحار إلى موجة من حالات الانتحار بين الناس»، مثل تلك التي تبعت انتحار مارلين مونرو عام 1986 على سبيل المثال.
أيعقل أن يكون الانتحار مرضا معديا؟ ولماذا حين ينتحر أحد المشاهير ينتحر بعده عدد لا بأس به من الناس؟ هل يحتاج المنتحر لمن يشجعه على إنهاء حياته؟ يقول تقرير قرأته مؤخرا إن الأدب أكثر دقة في تحليل ظاهرة الانتحار وتسهيل فهمها، وقد بدا لي هذا الأمر غريبا نوعا ما، رغم اتكاء كاتبه على نماذج أدبية تعود لمنتصف القرن التاسع عشر، وأخرى موزعة على حقبات من القرن العشرين، إذ تبدو التحولات التي طالت صورة الانتحار في الأدب، بعيدة عمّا يمكن أن نتصوره من خلال أدبنا العربي، الذي رغم تأثره بالآداب الغربية خاصة الرواية، إلاّ أنه مرتبط بالمعطى الديني ونبذ المنتحر، وفي حالة تقبل فعل الانتحار تكون توابعه محمّلة بالشعور بالعار، خاصة إن كان بسبب علاقة حب فاشلة، غير ذلك لم تجد العمليات الانتحارية أي تغطية بطولية في أدبنا، كون هذه الظاهرة تصيبنا بحساسية مفرطة من موقعنا كمسلمين، وهذا موضوع عولج، ربما بشكل مكثف، عبر الدراما، أما ما دخل النص الروائي العربي مؤخرا ـ خاصة المغاربي منه – فهو مغامرات المهاجرين غير الشرعيين الذين يقذفون بأنفسهم في البحار في السنوات الأخيرة، من أجل الوصول إلى الفردوس الأوروبي، بعض النصوص تعمّقت في المشكلة العويصة، التي خلعت الخوف من قلوب الشبان العرب بعد بلوغهم قاع اليأس، حتى أصبح الموت بديلا جيدا للواحد منهم عند الإخفاق في الوصول إلى أوروبا، أكثر من رواية وقعت بين يديّ وكانت نازفة بوصف المأساة التي تدفع بشباب في مقتبل العمر إلى التدمير الذّاتي، وكلها تضعنا في مواجهة تاريخ الموت في البقعة العربية بشقيه الإرادي واللاإرادي، ويبدو أن بطل النصوص الأحدث هو الموت الإرادي بدون منازع.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
عندما تقول الكاتبة: “إذ يبدو أن الإنسان كائن يحب الموت عكس ما يدعيه تماما..”, فهي تناقض المنطق العلمي بالصميم. منذ أن خلق الإنسانُ وهو يعشق الحياة لدرجة أنه قد لا ينام إلا قليلاً كي ينهي أعماله إن كان فلاحاً, كي يجني محصولاً وفيراً, أو إن كان بناءاً أو طالباً…. إلخ.
إن مصيبة البشرية هي حب الإنسان للحياة لدرجة مفرطة بعيداً عن العقلانية والقناعة, مما يدفعه للسيطرة وللهيمنة على حقوق الآخرين, إن كان مالياً أو سياسياً أو ثقافياً أو وجاهياً. أي أن الإنتحار ليس من أحد يحبه من البشر. بل هو حالة فجائية تعصف بمن فقد متعة الحياة وفقد ثقته بنفسه على أن يستمتع هذه الحياة الجميلة, لذا هو يُقدم على الإنتحار كهرب من المعاناة الروحية.
هناك تتمة تتبع
تتمة التعليق:
إن للإيمان بالله دور كبير في صيانة الروح البشرية, لذا كل من يحاول أن يهدم القيم الدينية هو يؤسس لدين الإنتحار الذي استشرى في المجتمعات التي داست على القيم الدينية. هناك فرق كبير بين غربلة القيم الدينية من الخرافات والترهات, وبين ترسيخ القيم الإنسانية التي تتمتع بها القيم الدينية. فاليرحم ذوي الفلسفة الإلحادية ويوقفوا حربهم العدوانية على القيم الدينية. معظم الملحدين العدوانيين يحسدون المتدينين على راحتهم النفسية, لذا يكشروا عن أنيابهم. إن الملحد المقتنع بإلحاده, يكون متصالحاً مع نفسه, ولا يضيره تدين الآخرين, بل يقيم معهم علاقات إنسانية نبيلة, على مبدأ لكم دينكم ولي دين.
وجهة نظرمتفاءلة جدًا : ــــــــــــــــــــــــــــــ
موت إرادي سيدتي :
لا أراه في الانتحار
بل بعطر زهـــــور
ونــــور أقمـــــــار
وعشــــق صوفي
شديد الانبهـــــار.
وللغسق…رفرفة عصافير
وأعشــاش دفء
بعد أسفار النهار.
موت إرادي آنســـتي :
بل تفاح أخضروأحمر
وأصفـــــــر ككبريت
في أتون لقداح الجُلنّـار…
لا أخاف ناره ؛
ولا أبالي من جَمالات صُفره
بذيّاك الشــرار….
فيا نجــوم الليـل الأدهــم
تفجّري كنافورة تريفي…
لتصبحي بفرمان وقرار :
رمانًا على صدور الغواني
يتدحرج كأمـــواج بحــار؛
ويترجرج كموجات زلزال
قبل أنْ يأتي منه انفجار…
فليكن عنه النهار…فهو بديل الانتحار.
من أروع ما قرأت اليوم // الموت الآرادي // تابعته بدقة متناهية وقد ظل يشغلني أعواما ،، الانتحار ـ،، وأمامي مجمل أشخاص جعلوا حدا لحياتهم وحتي لآأقل سبب لايدفع بصاحبه أن يتذوق الموت الصعب عن طيب خاطر وأخرون غيرهم يمكن أن تتقبل أسبابا كانت التدمير لهذه الحياة في أبسط وقت يصل إلي الدقائق واللحظات،، حتي وإن جعلت الكاتبة المحترمة قضية الشرف عند المجتمعات الشرقية خصوصا هو المحور الآساسي لما نحن بصدده، امامي الشخصية العالمية المعروفة شرقا وغربا، أفكر باستمرار الراحل صدام حسين كيف نجا بنفسه وقبيل دقائق معدودات وهو ذاهب إلي المشنقة كان يتكلم كلامه العادي في توادة واتزان ؟ والكلام طويل ..